أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من تلك الذكريات لن أنسى ها هنا شيخي ومعلمي الشيخ (صالح بن غصون) الفقيه المربي - رحمه الله تعالى -؛ فمن ظن أنني عارٍ من الشيوخ فقد خالف الصواب؛ بل إنني أفخر بمشايخ داخل المدرسة وخارجها، ابتداء بالشيخ (عبدالعزيز بن حنطي) في الكتاتيب، وسماحة الشيخ (صالح بن غصون)، والشيخ (محمد بن داوود)، والشيخ (صادق صديق) في المعهد العلمي، وسماحة الشيخ (عبدالرزاق عفيفي) في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء -رحم الله تعالى جميعهم-، وغيرهم كثير. وكان سماحة الشيخ (صالح بن غصون) -رحمه الله تعالى- شيخاً لي، وراعياً، ومؤدباً، وناصحاً أميناً، ومحباً حفياً.. وكان ينفحني بدريهمات لحاجتي آنذاك، وكنت معه مقصراً، ولم أزره بعد مرضه وزرعه الكبد إلا لماماً، وكلما سنحت الفرصة لزيارته استُجد عائق؛ لأنني خلال سبع سنوات كنت موزعاً بين مكة والمدينة -شرفهما الله تعالى-، وأبها، وحائل، ثم جدة بأخرةٍ. ولقد ذكرت في التباريح بعضاً من ذكرياتي مع سماحته، بيد أن ذكرياته الجميلة لا تُحصى ولا تُحصر دائماً إلا أن توجد مناسبة تستجر ذكرياتي. وجزى الله عني أخي (محمود الكسر) الذي اختار لحلقة اليوم هذه المادة الدسمة التي كدت أنساها، وأرجو أن يتقصى علاقتي معه، ولاسيما في عصر يوم الجمعة مع والدي (عمر) -رحمهم الله تعالى-، وأرجو أن يورد قصيدتي الممتعة في شيخي (ابن غصون)، كما أرجو أن يتقصى ما كتبته عن بقية أشياخي -رحمهم الله تعالى جميعاً-. وكنت مرةً مساعداً لمدير الخدمات العامة برئاسة تعليم البنات، وكنت أحس بالهضم أمام زملائي الذين نالوا مناصب عالية، وكانت مرتبتي دون المستوى؛ ففاتحت سماحته أن يزكيني عند رئيسي سماحة الشيخ (ناصر بن حمد بن راشد) الرئيس العام لتعليم البنات، فقال لي سماحة الشيخ (صالح) -رحمه الله تعالى-: «يا ولدي، لو أردت أن أتجاوز وأزكيك فلن تساعدني خرابيطك التي تنشرها في الصحف». وكنت يومها منهمكاً في كتابات فنية وجمالية!!، وانطلق يمطرني بوابل من العتاب، ويؤكد أنني لم أُخلق لهذا؟!.. وبعد أن نفّس عن خاطره بالعتاب قال لي: «يمكن أن أقول للشيخ ناصر: العلم الذي في صدر أبي عبدالرحمن أفضل من الخرابيط التي ينشرها في الصحف، وأنه عنصر صالح إذا وُجّه فتوجه!!.. ويمكن أن أشفع لك في تحقيق منفعة مادية تعينك؛ لأنك أخرق اليد!!».
قال أبو عبدالرحمن: ولست أدري هل كلم سماحة الشيخ (ناصراً) عن تحسين وظيفتي أم لا؟!.. وإنما اختلى بي سماحة الشيخ (ناصر) أكثر من مرة، وناقشني علمياً، وأتاح لي فرصة الاختبار على وظيفة (مندوب تعليم البنات في الأحساء)، ولما ضعفت أجوبتي عن أنهار وبلدان أجنبية سُئلت عنها قفزني في المقابلة الشفهية، ثم بذل جهده مع ديوان الموظفين العام (ديوان الخدمة المدنية حالياً) حتى بقيت في الرياض مديراً عاماً للخدمات.. ولكنني على يقين بأنه كلم سماحة الشيخ (ناصر) عن تحسين مادي؛ لأن سماحته طلب مني أن أكتب عرضاً لجلالة الملك (فيصل) - رحمه الله تعالى - أطلب منحة أرضاً لي ولاثنين من أبنائي الذكور؛ إذ ليس عندي يومها سوى جملة من البنات، وتابع الموضوع، ثم أكمل المشوار الأستاذ (عبدالعزيز الرفاعي) - رحمه الله تعالى -؛ فحصلت على منحة نفيسة قرب قهوة العويد بأنكاس (أفضل مكان اليوم)، ولم أنتظر المستقبل العقاري، وبعتها بأوكس الأثمان.. وكان مروري على سماحة الشيخ (صالح) له قليلاً إلا أن تكون لي عنده حاجة؛ وهذا عقوق بلا ريب في ظاهر الأمر، ولكنني في الحقيقة في غفلة من جراء الانهماك مع ثلة من صعاليك الفن والأدب مجنحين مع الجندول، والنهر الخالد، وبحيرة كومو، والأطلال.. إلخ.. إلخ.. وذات مرة طلب هاتفي؛ فأعطي خطأ هاتف ابن عمي وابن خالي المطابق اسمه اسمي، وهو (محمد بن عمر بن محمد العقيل) - رحمه الله تعالى -.. وأظنه اهتدى إلى رقم هاتفي عن طريقه؛ فأمطرني في الهاتف عتاباً، وأنه يخشى عليّ الفتنة في الدين؛ لأنني هربت من مجالس العلماء ومجالستهم، وهم ذوو النفع بعد الله دنيا وآخرة، وانجرفت مع الضائعين ممن أثروا في، ولم أستحوذ عليهم!!.. وكلما حاولت الاعتذار بأنني لم أنقطع عن المشايخ، وأنني دعوت الشيخ فلاناً وفلاناً، وزرت الشيخ فلاناً وفلاناً: قال: يا ولدي: اترك عنك هذا الكلام.. المجاملة شيء والصحبة الدائمة النافعة شيء آخر.. وعلى أي حال ما طلبتك إلا لأخبرك بأن شيخ الجميع سماحة الشيخ (عبدالله بن حميد) يسأل عنك كثيراً، ولم يهتد إليك، وتعهدت له بأن أرسلك إليه، فلا بد أن تزوره.
قال أبو عبدالرحمن: ففوجئت بهذا الخبر؛ إذ لا ثقل لي حتى يطلبني سماحته!!.. وكنت بين خوف ورجاء؛ لأن سماحته كان مهيباً، وقلت: يا شيخ (صالح): عسى ما شر، أو أن أحداً كذب علي؟!؛ فقال: يا ولدي: صل مع شيخك (ابن حميد) العصر، أو المغرب، أو تغدَّ معه؛ فإنه يتغدى مبكراً؛ لينام قبل العصر قليلاً، وليس عند المشايخ إلا الخير.. ثم حصل لقائي مع سماحة الشيخ (ابن حميد) - رحمه الله تعالى -، وتلقيت عتابه وتوجيهه حول مقالتي (بل ننقي أقلامنا).. وقد ذكرت ذلك في التباريح.. وكان سماحة الشيخ (صالح) -رحمه الله تعالى- شديد الإلحاح عليّ بأن لا أرهق نفسي بشراء الكتب، والتوسع في الفنون (كان ذلك أيام الطلب)، ويوصيني بالاستعارة؛ لأن الغرض حفظ العلم، واستحضار معانيه، لا تكديس الكتب، ويعرض عليّ أن أستعير من مكتبته ما أريد.. وكان يوصيني بحفظ المختصرات في الفقه والحديث والنحو.. وكان يقول لي دائماً: «لست الشمس تطلع على كل شيء، والعمر قصير»؛ وهو ممن يزهدون في التأليف.. ثم في الأعوام الأخيرة بعد انتقاله إلى الرياض قال لي بالنص المقارب: أنت يا ولدي لا تحسن التصرف في علمك ومالك، وليست عندك فراسة في اختيار الأصحاب.. وما دمت اخترت الظاهرية وابن حزم، وإن كان الأجدر غير ذلك؛ فوفّر جهدك للمحلّى مثلاً قراءةً وحفظاً وشرحاً وتخريجاً، وليكن ذلك جهد العمر كله.. وأنت لن تعمر عمر نوح، وقد نلت من الشهرة الصحفية والثقافية ما يكفي، ومحاولتك معرفة كل شيء ضرب من العبث والحوس؛ فلتكن خدمتك للمحلّى أثراً خالداً تنتفع به، وينتفع به الناس، ويكون لك فن تكون مرجعاً فيه، وتعرف به، وتكون حجة فيه!!
قال أبو عبدالرحمن: ولسوء حظي لم أنتفع بوصيته - رحمه الله تعالى -، ولم يستجب لدعوتي في المنزل إلا مرة واحدة بعد إلحاح شديد مني، واشترط أن لا أتكلف، وأن لا يزيد المدعوون عن أناس حددهم هو.. وقال لي: أنت مسرف، وسورة الإسراء بينت لك كيفية الإنفاق!.. ودعوته لحضور مناسبة زواج إحدى بناتي، وقدمت له كتابي (ابن حزم خلال ألف عام) هديةً له؛ فاعتذر عن تلبية الدعوة بلطف، وقفز بسرعة على أساس أنه سيدخل كتابي بمكتبته، وأنه سيجدد الوضوء، وأمرني بانتظار البخور، وأن نذهب لصلاة العشاء معاً.. وبعد أن عاد ناولني ظرفاً، وقال: هذه أوراق اطلع عليها، وأعطني رأيك فيها، ولست مستعجلاً عليها، ولا تنشغل بها إلا في البيت؛ لأنها تحتاج إلى تأمل طويل.. وشاغلني عن فتح الظرف؛ فلما فتحته في المسجد وجدت فيه عشرة آلاف ريال؛ وما أعظم قيمتها آنذاك، ولقد أردت أن أشكره؛ فصرفني عن الحديث في هذا الموضوع مطلقاً بعد أن أخبرني بأن المبلغ معونة في الزواج، وشاغلني بأجواء توجيهية.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أنسى بركة تلك النقود، وكنت في أزمة وضائقة!!.. وكان - رحمه الله تعالى - ذكياً نبيهاً، عوضه الله عن فقد بصره بالبصيرة النافذة، والحس المرهف.
قال أبو عبدالرحمن: لقد كان (صالح بن غصون) - رحمه الله تعالى - جبلاً من العلم والحكمة والقوة.. كان صورةً أمينة لمدرسة سماحة الشيخ (محمد بن إبراهيم) - رحمهم الله تعالى جميعاً -؛ فما أحوجنا في هذا التمزق إلى أمثال هؤلاء؟!.. رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار، وجمعنا بهم في دار كرامته، وأعاننا على أنفسنا؛ لنسلك سبيل الهدى.. هكذا أعرفه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً. وإلى لقاء في يوم الجمعة القادم إن شاء الله تعالى. والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
-عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-