د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في التعامل البشري قد يكون من المناسب للمرء الإيغال في نفس من أراد الله أن تتعامل معه، وتعرف كيف يفكر، وماذا يستهويه، أو يكدر صفوه، وتقدم على ما يرضيه ويدنيه، وتتجنب ما يثيره ويقصيه، لكن ليس بالضرورة النجاح في المسعى، والوصول إلى المبتغى. والـقلوب لا يمكن أن يتم اصطيادها كما يُصطاد السمك من البحر أو النهر، وحتى السمك قد يمرّ أمام مرآك عدد هائل منه، ولا تكاد تصطاد إلا القليل منه، وقد تمسك بواحدة، وتفلت من يدك لسبب أو لآخر.
والأنفس تتغير بتغيُّر الزمان والمكان، واليسر والمقام، فلا يمكن الركون إليها مهما ظن المرء أنه ممسك بها مسك الكفيف للشاة، أو البخيل للزكاة. والأهم أن يطمئن المرء ويهنأ بما يستطيع، وقد يكون ترك ما لا يدرك، مع فرط المحبة والاجتهاد، خيرًا من الاستمرار في الإجهاد.
في صراع مرير على قلب ولادة بنت المستكفي، الخليفة المقتول، والشاعرة غير الخجول، وفي قلوب محبيها تصول وتجول، سبر أغوار قلبها ثلاثة نفر، كل منهم ظن أنه استطاع امتلاكه، لكنها كانت لعوبًا، القابض على قلبها كالقابض على الماء، تدنيك حيناً، وتلهو عنك أحياناً، وكأنها سراب في قيعة.
انسحب أحد الثلاثة من الصراع بعد أن تبيّن له أن المعركة لا قِبل له بها؛ فمنافساه وزيران، عالمان، شاعران، يحسنان كسب القلوب، ومعرفة المقصود، هما أبو الوليد ابن زيدون، والوزير أبو عامر ابن عبدوس. وللدلالة على فهم المقصود، فإن أبا الوليد بن زيدون قال: «كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائماً بغادة تدعى ولادة، أرى الحياة متعلقة بقربها، ولا يزيد في امتناعها إلا اغتباطي بها». واستمر ابن زيدون في وصف مجلسهم، ومقدار سعدهم، وأنسهم، وكان برفقتهم مغنية اسمها عتبى، فغنت من شعر ابن زيدون:
أحبَّتنا إني بلَغْتُ مؤَمَّلي
وساعَدَني دَهري وواصَلَني حِبِّي
وجاء يُهَنِّيني البشيرُ بِقُربِهِ
فأَعطَيْتُهُ نفسي، وَزِدتُ لهُ قلبي
لكن ابن زيدون طلب من المغنية الإعادة دون إذن ولادة. ويبدو أن الغيرة قد بلغت منها مبلغاً، لم تستطع معه تحمل الموقف؛ فصفعت ولادة المغنية، فقال ابن زيدون:
وَما ضَرَبَت عُتبى لِذَنبٍ أَتَت بِهِ
وَلَكِنَّما وَلّادَةٌ تَشتَهي ضَربي
فَقامَت تَجُرُّ الذَيلَ عاثِرَةً بِهِ
وَتَمسَحُ طَلَّ الدَمعِ بِالعَنَمِ الرَطبِ
ثم يقول ابن زيدون: «فلما قامت قامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، وأنفت من الاعتراف، وباكرت إلى الانصراف، ووشت، بمسك الأنفاس، على كافور الأطراس، فقالت:
لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا
لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ
وَتركتَ غصناً مثمراً بجماله
وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنّني بدر السما
لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري».
ومن هذا الشعر يمكننا أن نستلهم أن المغنية كانت صغيرة السن، بينما ولاَّدة في ريعان الشباب.
إن ابن زيدون هنا قد عرف المقصود من ضربها للمغنية؛ لأنها كانت تريد ضربه هو، غير أنها ضربت المغنية تعبيراً عن سخطها عليه، وفي الوقت نفسه لم يساعده ذكاؤه في تجنب إثارة غيرتها بطلبه الإعادة من المغنية. وما أحسن تلمس مشاعر المرأة وتجنب ما يغيظها.
وفي نهاية المطاف فإن الوزير أبا الوليد ابن زيدون فشل أمام منافسة الوزير أبي عامر ابن عبدوس في الاستمرار على الإمساك بقلبها، وهذا من المهارات التي قد لا يحسنها البعض؛ فيخسر القلوب، ويجافيه المحبوب. وأخذ ابن زيدون يهدِّئ الألم، بالشعر، والنثر، والقلم، وينفث سحر شعره ونثره شوقاً إليها، وحنيناً إلى لقائها، بعد أن أودعته السياسة بالسجن، ومن ثم أبعدته عن وطنه، وزادت من سقمه، وهو قبل ذلك قد أوسعها هجاءً وقدحاً، ولكنها لم تسكت عنه فردت عليه بشعر فاحش، لا يحسن أن يخرج من رجل فكيف بامرأة أميرة أثيرة.
أما الوزير أبو عامر ابن عبدروس فقد ناله نصيب من هجاء ابن زيدون واستهزائه، فأنشأ الرسالة الهزلية، التي شرحها ابن نباتة في كتابه سرج العيون في شرح رسالة ابن زيدون، وهي مشهورة معلومة، كتبت عنها الكثير من المقالات فيما مضى، كما قال شاعرنا ابن زيدون في أبي عامر ابن عبدروس، ملمحاً بين ثنايا شعره بعلاقته السابقة معها، وهو مهوناً على ما في قلبه، وكأنه يعزي نفسه بفقده لها، فقال:
قالوا أَبو عامِرٍ أَضحى يُلِمُّ بِها
قُلتُ الفَراشَةُ قَد تَدنو مِنَ النارِ
أَكلٌ شَهِيٌّ أَصَبنا مِن أَطايِبِهِ
بَعضاً وَبَعضاً صَفَحنا عَنهُ لِلفارِ
والفأر هو لقب ابن عبدروس، لكنه لم يصرح باسمه، لكنه لمح وأشار إليه، إشارة ظاهرة، ولاسيما أن المجتمع المخملي في قرطبة آنذاك يعرف أفراده بعضهم بعضاً، وجلهم علماء وشعراء، بمن فيهم الحاكم وممثل الجماعة ابن جهور وبنوه.
كم كان ذلك المسرح الإنساني جميلاً رائعاً عطاء، وأدباً، وفرحاً وسروراً، وغبطة، وهناء، لكنهم أهملوا عاملاً حاسماً، هو حماية الديار، والوحدة، ونبذ التطاحن والصراع؛ فسقطت الديار جميعها.