لا أحد يقوم مقام الأب، وخاصة مع وجوده ورعايته، وعطفه وعنايته، غير أن الأب لداع تربوي قد يفتح لابنه بابًا ليتصل بالقدوات من مشايخه ومعلميه اتصالاً وثيقًا، لا يقف عند التعلم والتلقي، وإنما يرتفع إلى مقام الاستشارة والاستنصاح، مع ما يحتف بذلك من المحبة والتقدير والإجلال.
وهكذا كان حال الفتى وأبيه مع شيخه العلامة محمد بن صالح العثيمين (1347-1421هـ)، رحمه الله تعالى، وقد انضم إلى المشيخة صلة وثيقة بين أبيه وشيخه، ومعرفة قديمة، ومودة راسخة، يعززها قرب الدار، وتحقق الجوار، فالأسباب لبنوة التلميذ لشيخه متواترة، والدواعي حاضرة.
كان الشيخ حاضرًا في حياة الفتى الصغير، يراه في حيه، ويصلي معه في مسجده، وكم علق الأمل في حضور دروسه والانتظام فيها، غير أن أباه حدد له موعدًا تقريبيًّا يلتحق فيه بحلقة الشيخ، فلما بلغ ذلك السن أو كاد، أذن له، وأمره أن يستأذن الشيخ، لعل له رأيًا أو توجيهًا..
التحق في حلقته في شوال عام 1411ه، وانتظم في درس واحد منها، حتى وفاته، وحضر بعض الدروس الأخرى، وخاصة دروس النحو، فقد شرح الشيخ شيئًا من النحو الواضح (لعلي الجارم ومصطفى أمين)، وألفية ابن مالك، غير أن الطلاب ألحوا على الشيخ مرارًا أن يستعيض عن النحو بعلم آخر، مما يقصدونه لأجله، وحجتهم أن النحو يقوم غير الشيخ مقامه فيه، أما غيره فلا يقوم أحد مقامه... وقد دار حوار ساخن في حلقة الدرس يومذاك، أبدى الشيخ فيها اهتمامًا كبيرًا في النحو، وحاجة طالب العلم إليه، كما أعطى درسًا منهجيًّا تربويًّا في الإصرار والعزيمة، والتحذير من التردد والنكوص، وردَّ ترك شرح المتن إلى غيره ضربًا من الضعف، وصورة من صور دنو الهمة والخور. ومع هذا، فإن الشيخ، وإن لم يجب طلبهم كلَّه، فقد قلَّص بعض ما قرره أولاً، فجعل النحو في يومين بدلاً من خمسة.
كان السجال في الحلقة قد أشعل في نفس الفتى الحماسة، وزاده تمسكًا بـ(تخصصه) الذي اختاره مبكرًا، فكان محط نظره، وموضع عنايته، ومجال بحثه، وربما غره الشباب وفورته، فكتب فيه، وكان مما كتب تعليقات على الآجرومية، وقد شجعه على نشرها تأييد بعض أساتذته، ومراجعتها، والتقديم لها، وصدرت عن مركز صالح بن صالح الثقافي عام 1417ه، ولما عرضه على شيخه أراد أن يوزعه على الطلاب في الدرس، فكان ذلك.
وفي درس لم يحضره وحضره صديقه المقرب (الدكتور فيما بعد) تميم بن عبد العزيز القاضي وزَّع الشيخ على الطلاب ما لخَّصه من مغني اللبيب لابن هشام، فجاءه تميم بخبره، وشفعه بنسخته، فلما قرأه وتأمله، وأجال فيه نظره مرة بعد مرة، قاده شغفه بالنحو، ومحبته لمؤلفه، إلى أن يسعى لأن يعنى به، ويعمل على إخراجه ونشره، فاستأذن شيخه، فوافق من لحظته، وجاءه من فوره بنسخة الأصل بخطه، فشرع الفتى بالعمل من يومه، وأتمه في سنة وبضعة أشهر، وتوَّج الشيخ عمله لما أذن له بطبعه، وقد صدَّر خطاب الإذن بوصفه له بالبنوَّة. وكان صدوره عام 1418ه.
وعلاوةً على ما أفاده الفتى من العناية بالكتاب، والمقارنة بأصله، والتعرف على المصادر، وتبيُّن الشواهد وأوجه الاستشهاد بها، فقد أفاد أيضًا من التعامل مع الناشرين، ومعرفة بعض أعراف التجار، واكتشاف طرائقهم في التسويق، والاعتمال في الترويج، وتحين الفرص واهتبالها، وما يتخلل ذلك من توريات متكلفة، وحلاوة لسان مصطنعة، مما لم يعهده الفتى في سالف عمره، كما عرف دأب شيخه في كتبه، وطلبه ما عند الله فيها، فلم يدخل حسابه منه هللة واحدة. وفي أروقة الجامعة انفتح للفتى في البحث باب آخر، لما حرص على النظر في الدوريات المحكمة، وقراءة بعض ما فيها من الأبحاث في مجال اختصاصه، فكتب بحثًا في النحو عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وما إن أتمه حتى عرضه على شيخه، فانتظره بعد صلاة الظهر، حتى إذا أراد الشيخ أن يدخل بيته سلمه إياه، وكان الشيخ بعد الظهر لا ينتظر فراغ السائلين، وإنما يصرفهم ليستقبل المستفتين عبر الهاتف، بخلاف موقفه بعد العصر، فكان لا يدخل بيته حتى يقضي حاجة كل واقف. فلما سلمه البحث، وقرأ الشيخ عنوانه، قال: نحو! ما عندك يا فريد إلا النحو؟! ثم وضعه على صندوق بجوار الباب من الداخل، وابتسم ابتسامة تنهي الموقف، وتؤذن بالوداع.
عاد الفتى وفي نفسه ما فيها، فقد كان ينتظر من شيخه كلمة تشعره بالتأييد، ودعوة بالتوفيق والتسديد، فلما لم يتسن هذا، قنع بالمداعبة، واكتفى بالابتسامة!
وفي الليلة التي تلي يومه ذاك، جاءه في المسجد أحد طلبة الشيخ يسأل عن بحثه هذا، فأجابه على استغراب إجابة مقتضبة، ثم جاءه طالب ثانٍ.. وثالث، فسأل آخرهم ما الخبر؟ وكيف عرفت البحث؟ فقال: إن الشيخ ذكره في الدرس وأثنى... وهنالك سُرِّي عن الفتى، وأدرك احتفاء شيخه بما كتب... وقد ظن الفتى حينئذ أن الشيخ ذكر ما ذكر عرضًا لسائل سأله، ولم يتوقع أنه مكتوب مسجل، حتى مضى على ذلك أكثر من عشرين سنة، فأرسل إليه أستاذه مساعد السلمان نص ما ذكره الشيخ، وكان في درس التفسير، تفسير سورة الأنعام.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف – جامعة القصيم