يخطئ الكثيرون من العامة عندنا في الشرق إذ يتصورون الفيلسوف رجلاً يجلس في برجه العاجي. يراقب البشر من عل ويحلق في دنيا من خيالاته دون أن يقدم للناس شيئاً. وعندما نطالع مسيرة الفلسفة والفلاسفة عبر التاريخ سنكتشف أنهم رجال أفذاذ قدموا عصارة فكرهم لتغيير العالم نحو الأفضل، وكانت لهم أياد بيضاء على البشرية، بل وقادوا عملية تنوير واسعة شقت عصور الظلام. وربما عانى فلاسفة أوروبا ومثقفوها من المطاردة وينبغي العلم بأن المثقفين والفلاسفة في ذلك الزمان كانوا مهددين في كل لحظة بحياتهم ورزقهم أو مراقبة كتبهم ومخطوطاتهم تماماً كبعض المثقفين العرب حالياً، وكانوا يعيشون منفيين أو هاربين معظم الوقت.
ومن رحم هذه الحروب السرية- العلنية خرجت الحريات الحديثة، وبالتالي فلا ينبغي أن تخدعنا الصورة الزاهية للحريات الواسعة والمنتشرة الآن في كل أنحاء أوروبا، فهي لم تهبط عليهم كهدية من السماء. وإنما انتزعوها شبرا شبرا وفترا وفترا، وبعد نضال طويل وعريض. هذه المعركة الأبدية بين الخير والشر والحرية والدكتاتورية ألقت بظلالها على كل الأفكار الأوروبية، فهذا فولتير مثلاً لم يتزوج، وبالتالي لم ينجب الأطفال، ما هي معركة فولتير الأساسية؟ إنها تتلخص بكلمة واحدة محاربة الوحش الضاري بحسب تعبيره الحرفي: أي التعصب والإكراه في الدين إنها تتمثل في محاربة الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين الذين كانوا يسيطرون على عقول الشعب الفقير والجاهل وينشرون أفكار التعصب في كل مكان. ثم تتمثل أيضاً في محاربة الاستبداد السياسي المرتبط بكل ذلك، وطبعاً من دون أن يعني ذلك أن فولتير كان ضد الإيمان في المطلق. عاش فولتير في القرن الثامن عشر، وكان من أكبر المدافعين عن الحرية ومن أكبر أعداء التطرف الديني، ويعتبره المؤرخون من أهم منظري الثورة الفرنسية ورمزاً لعهد التنوير.
** **
- سالم العرياني