كالريحِ أمضي إذا ما هاجرتْ لغتي
إلى الخيالِ وعادتْ تحملُ العدما
لم يوظف ثنائية السفر والإياب، ولا المغادرة والرجوع، في رحلة اللغة، بل وظف الشاعر أسامة الزهراني ثنائية (الهجرة والعودة) حيث الهجرة لا يمتطيها إلا المغترب، ولا يوصف من خرج منها صوب البلاد إلا» عائداً»، فما كان من قصيدته التي بدأها بداية عكسية من آخر الدرب عودة إلى بدايته الأولى؛ إلا أن تبدأ بلفظة» العودة» في مطلعها:
عادَ الغريبُ إلى مثواهُ مُبتَسِما
كأنهُ لم يَذُقْ من أمسِهِ ألما
عادَ الغريبُ صبورا متعبا كَلِفا
لكنهُ اعتاد ما استشرى وما احتدما
إذا كان غريباً في البلاد التي شد إليها الهجرة، فكيف يكون غريباً في مثواه الذي عاد إليه؟ إنها غربة الروح في الحياة التي جسدها الشاعر بأبعاد الغربة الجغرافية، وكأنه يشاطر المتنبي هذه الغربة الروحية حين قال:
كذلك كنتُ في أهلي وفي وطني
إن النفيسَ غريبٌ حيثُما كانا
فها هو الزهراني بعد أن وصل إلى آخر الدرب مهاجرا الغربة التي خرج منها، عاد إليها مجدداً محملاً بآلام تشربتها روحه في رحلة الأمس، بيد أنه أبرزها في ابتسامة تعلن الرغبة في العزوف عن الجدال والتنقيب في أغوار النفس حول ما اكتسبه في رحلته المحملة بالتعب والكلف؛ لأنه اعتاد ذلك ولا جدوى من فتح الجروح التي صور طول ملازمته لها في البيت التالي:
قد كان يسري على أوجاعه زمنا
حتى رأى الحزن خِلا صادحا نغما
هكذا رأى الشاعر دربه من أوله حين التفت إليه وهو يقف في آخره، درب من مطلعه مفخخ في الأحزان والأوجاع التي يثقل الروح حملها، ولا يزال يمشيه أملاً في الوصول إلى واحة النعيم في آخره، فالتفت إلى دربه حين وصل إلى الفلق و:
نادى وفي نفسه من نفسه كمدٌ
وفي العيونِ خيالٌ منه قد رُسِما:
يا آخر الدربِ لم آتيكَ مضطربا
من أول الدربِ إلا كنتُ مُنقسِما
أضعتُ بعضي في صبرٍ وفي جلدٍ
فجئتُ بعضًا تفانى منه ما سَلِما
هكذا بدأ الشاعر تصوير درب الكبد في الحياة بداية عكسية، فقد كشف عن الكبد في آخر الدرب ومن ثم صور امتداده من أوله، في حيرة الانشطار التي تخللت الروح من أوله، روح هاجرت الغربة أملاً في العثور على نفسها، وحين وصلت آخره وجدت نفسها أمام الغربة التي هاجرتها!
إنها العودة إلى الغربة التي جاء الإنسان إلى الحياة فيها، فانتماء الروح هو للعدم الذي كانت به قبل مولدها في جسد، وما إن تأتي إلى الحياة إلا تأتي إلى الغربة فلا تلبث بضع وقت حتى تألف الفضاء الذي جاءت إليه، والروح في قصيدة شاعرنا كابدت في هذا الفضاء حتى تفانت من نفسها، وهاجرت إلى أخر الدرب أملا في العودة إلى النفس، فكان الكبد إلى آخر الدرب، ما حمل النفس أن تحمل من نفسها كمدا، حتى عادت إلى أول الدرب غريبة كما جاءت منه أول مرة!
ويستكمل الشاعر مشهد ثقل الرحلة الذي كان أكبر من اللغة مما حال بينه وبين أجابته على تساؤلات الحيرة في نفسه:
وكنتُ.. ما كنتُ إلا محض عاطفةٍ
مكبوتةٍ عانقتْ من حشدها الندما
مهاجرا سرتُ لا نجوىً أبُثُ بها
وقد دنا الصمتُ واجتاحَ السكونُ فما
أجيبُ نفسي؟ لا أدري! إذا سألتْ
-في حيرة العمر-: «يا هذا الغريبُ.. لِمَ؟»
كالريحِ أمضي إذا ما هاجرتْ لغتي
إلى الخيالِ وعادتْ تحمل العدما
تكاشف النفسُ الشاعرَ في محاكمة تستجوبه فيها استجوابا مفتوحا عن كل فضاء الغربة، غير مقيد بجملة استفهامية بعد أداة الاستفهام» لِمَ؟»، فتنفتح النفس على آفاق لا حدود لها، أفاق ممتدة مع امتداد الغربة التي لا تنتهي، يستعصي معها امتداد اللغة لتغطية أطراف حدودها؛ فما كان من الشاعر إلا أن يجيب «لا أدري» أمام محاكمة النفس الحائرة لهذا الغريب؛ فهو كالريح الذي لا وزن له إزاء اللغة التي يطلق عنانها وتعود عدما خالية من وصف الشعور، وإجابة السؤال، وكأن اللغة تمزعت وهي تتمدد لتغطية أطراف الشعور الممتد.
وبعد يأس الشاعر من تبدد الغربة في آخر الدرب، يعكف به مناجيه عن امتدادها فيه:
يا آخر الدربِ لو كان النعيمُ.. إذنْ
لما شددنا إليك الروحَ والقَدَمَا
ولا سلكنا طريقًا حالمين وفي
آفاقِنا كُلُ قلبٍ قاصدٍ حُلُما
ولا حملنا من الآمالِ أحسنها
حتى كللنا، فعدنا نحمل الألما
يا آخر الدربِ لا تأسفْ فلستُ أرى
يومًا من الدهرِ إلا بات مُضطَرِما
إني انسجمتُ مع الآلامِ وانسجمتْ
مع الضميرِ وإن لم أبدُ مُنسَجِما
إنها الهجرة إلى آخر الدرب بعد نفي النعيم قطعا عن أوله في حرف الامتناع للامتناع» لو»، الدال على نفي الشرط والجزاء؛ ولذلك شُدتْ الهجرة إلى آخره والنفس حالمة، معلقة الآمال في أفقه، حتى إذا ما وصلت إليه بعد الكلل» عادت» خائبة تحمل الآلام.
العودة إلى الغربة التي بدأت منها الهجرة، تدل على غربة الطريق، غربة العمر، أن كل هذا العمر غربة، والنفس عائدة إلى ما هجرته بعد اكتمال الدورة.
لقد تجسد الألم في قافية الألف الممتدة التي طال بها نفسه عبر امتداد الرحلة المحملة به، فكان يتسرب في امتدادات القافية التي تطلق آهات النفس عبرها.
جسدت هذه القصيدة ثنائية( الهجرة والعودة) التي تتجلى في رحاب الغربة، بيد أن الشاعر جلى تجربة الغربة الروحية في قالب الغربة الجغرافية، حيث استقى من الأخيرة رحلة الطريق والوحشة في تبدل البلاد وتغير صروف الدهر، ووازاها في غربة الروح التي تماثل مجريات غربة الجغرفة، فصور بذلك وحشة النفس في رحلتها عبر امتداد الأزمان وما تثقل بحمله في كل خطوة بالدرب، حتى إذا ما وصلت إلى آخره وهي التي شدت الرحال إليه ظنا منها أن به النعيم وجدته مثقلا بالآلام كأوله؛ فإذا بها تعود إلى الغربة!
أحسب هذه القصيدة العميقة- وأنا لا ألقي الكلام جزافا- من بدائع اللغة العربية، قصيدة منذ شهرين وأنا ألتف حولها وأحاول أن أصف أبعادها والكلام يفلت مني فإذا بي كمن يمسك الماء بين يديه، وليس هذا المقال يفيها حقها الذي كنت أروم إليه؛ فلم تدعني إلا أقف أمامها قائلة: سامح الله اللغة العربية؛ التي تجيء بالكلام على أتمه، ولا نستطيع أن نصف تمامها وجمالها من ذات الكلام الذي جاءتنا به!
وكلما هاجرت لغتي إلى الخيال لتعود إلي بالكلام الذي أصف به شعوري حيالها عادت إلي تعمل العدم!
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com