أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قلت لصاحبي (ابن أبي عنبسة المحروم)، المزواج المطلاق، بعد أن طلَّق آخر العنقود من حريمه:
- لقد سُمِّي ما تُؤتَاه المرأةُ للزواج: (أجرًا) في «القرآن الكريم»: «اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، وطَعَامُكُمْ حِلُّ لَهُمْ، والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ، والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ، إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...» [المائدة: 5]، وسُمِّي تارة أخرى: (صَداقًا): «وآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً، فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا، فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا». [النساء: 4].
- الزُّبدة؟ ماذا أردت قوله؟
- مصطلحا (أجر) و(صَداق) دقيقا الإشارة إلى فكرة ما تُؤتَى المرأة من مالٍ عند الزواج، يُبعِدان الأمر عن أُفهوم البيع والتملُّك والثمن، الذي يبدو أنك، يا ابن أبي عنبسة، تفهمه من فكرة الزواج.
- لا تحاول التأثير عليَّ، ما دام جيبي عامرًا، فربيعي العربيُّ عامر!
- لقد أصبح الأمر تملُّكًا وسيطرة، إذن، كما أخبرتك في الحوار السابق.
- سمِّه ما شئت! هذا تدخلٌ في الشؤون الداخلية، لا أسمح لك به!
- شؤونك الداخلية منيِّلة بستين نيلة، وهناك حقوق إنسان، تهمُّ كل إنسان!
- لا تظلمني، والله إني لأكرم وأرحم!
- وما ظلمناك، ولكن أنت لنفسك الظالم. ومَن سيشهد لك سِواك؟ يمينك غَموس. لقد ذكَّرتني بأحد الحُمْس المعاصرين، بلغت به نعرة التعصُّب لبعض الأعراب من أجداده إلى الحلف أنهم لم يكونوا على أخلاقهم التي وصفهم «القرآن» بها، وتواترت عنها الأخبار والروايات، واستمرَّت شواهدها إلى الآن، شِعرًا ونثرًا وواقعًا! ولو كان صاحبك باحثًا عن الحق، ما بلغ به الحال إلى هذا المآل العجيب، من اتِّخاذ أَيمانه جُنَّةً للدفاع عمَّا يجهل أصلًا! فاطمئن، لست بوحدك، مع الأسف، فغيرك لا يكتفي بالمحاماة عن نفسه، بل يحامي أيضًا عن عادات آبائه الروحيِّين من أهل الجاهليَّة الأولى!
- والدليل؟
- ممتاز أن تسأل عن الدليل! الدليل ما كشف عنه مصطلحا «المِلْكة»، و»المُمْلِك»- المشار إليهما في المساق السابق، المستعملان في الإشارة إلى «عَقد النكاح» والمأذون- من مكنونٍ تفكيريٍّ اجتماعيٍّ بامتلاك الزوج امرأتَه، فضلًا عمَّا يدلُّ عليه واقع الحال في المجتمع. فالعمليَّة هنا أصبحت عمليَّة بيعٍ وشراء تمامًا. ولستُ أدري أجاءنا توطين مصطلح «المِلْكة» و«المُمْلك» مع المسلسلات المِصْريَّة، أم هو وليد التراث، أم البيئة المحلِّيَّة؟ التي هي جديرة في مثل هذا بالتصدير لا بالاستيراد، على كل حال! ومهما يكن من أمور التصدير والاستيراد، فليست تلك مجرد كلمة، بل إنَّ وراءها عقليةً ذات نظرةٍ خاصةٍ إلى المرأة، بوصفها سِلعة، وإلى قيمتها وعلاقة الرجل بها. تتماشى مع التعبير الآخر في بعض مناطق المملكة عن تزويج المرأة بـ«بيعها»؛ حيث يقول أحدهم أو إحداهنَّ مثلًا: «قد بيَّعت بناتي!» بمعنى زوَّجتهن. وإنما سُمِّي عَقد النكاح عَقدًا لأنَّه كأيِّ عَقدٍ آخر، لكلا الطَّرَفين، وليس بيعًا وشراء، أو تمليكًا لأحدهما على الآخَر. ولكن ما الغريب في الكلمات، ما دمنا نسمع إلى اليوم من يقول عند ذِكر المرأة: «أعزك الله!»، أو «أكرمك الله!»؟ وما اللغة إلَّا فاضحة الثقافة. فثقافة «وَأْد الأنثى» ما زالت قائمة، مذ (قيس بن عاصم المنقري)، إلى مَن ينافح عن ثقافته من حفدته، بصورةٍ أو بأخرى، ممَّن يدَّعون الأدب والثقافة. واستفتِ عن تلك الثقافة عمَّك (البحتريَّ)، مثلًا، القائل، حين عَزَّى (محمَّد بن حُمَيْد الطُّوسي) في وفاة ابنةٍ له، فأوصاه بالفرح لموتها، واتِّباع سُنَّة الجاهليَّة في وَأْدِ البنات!:
لَم ْ يَئِدْ كُثْرَهُنَّ (قَيْسُ تَمِيْمٍ)
عَيْلَةً بَلْ حَمِيَّةً وإِباءَ!
- عَقد نكاح؟ وتراه مصطلحًا أفضل من «مِلْكة»؟! لا يليق أن يقول أحدنا: أنكحتك ابنتي؛ ولهذا استُخدِمتْ في بعض لهجاتنا، ومجتمعاتنا، كلمات بديلة أرقى! وذلك تجنُّبًا لاستخدام كلمة جنسيَّة صريحة. وما أعجب إلَّا من بعض اللهجات، حيث يقولون: «نَكَحَ فلانٌ فلانة»، أي تزوَّج بها، إلى غير هذه من المشتقَّات من هذه المادَّة الفاضحة!
- ما الفرق بين «نكاح» و«لقاح»؟ ألسنا نقول عن المصل المعطى للوقاية من فيروسٍ لقاحًا، ولا يثير هذا التعبير حساسيَّة أخلاقيَّة؟
- بلَى. ولا سيما هذه الأيام، بل هذه السنة، التي يتكرَّر فيها لفظ «لقاح»، بلا حياء، مئات المرات، ولا لقاح! منذ ظهور وباء كوفيد 19، والدول تتسابق والشركات للإعلان عن لقاح جديد ما، وما هي إلَّا أيام وتتبخر لقاحات الأكاذيب المعلنة، ليظهر غيرها!
- كوفيد19 تجارة، بل تجارات، منها ت جارة الإعلانات عن لقاحات لتلميع هذا المعلن أو ذاك. حتى لقد أصبح (فيروس كُرونا) ناخبًا أميركيًّا، رغم أنف (ترمب)، الذي تعالى على تغطيته، حتى أدبته الآنسة كرونا، هو وحَرمه! لكن دعنا من هذا. التعبير العربي عن الزواج بـ«النكاح» ما زال بالفعل دارجًا في بعض اللهجات بمعنى الزواج، فالرجل ينكِح المرأة والمرأة تنكِح الرجل، بمعنى الزواج، ولا يُستشعَر منه ما يخدش الحياء؛ لأن المعنى صار منزاحًا إلى المعنى الاصطلاحيِّ في «القرآن». بل لا يُستعمَل اللفظ في معناه الآخَر مطلقًا في تلك اللهجات. ولكن اتقِ الله!
- لِمَ؟
- أأنتَ، أو نحن، أكثر أدبًا من الله في التعبير؟! ألم يقل الله في قِصَّة (شعيب) مع (موسى): «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ.» [القصص: 27]. وسَمَّى عَقد النِّكاح: «عُقدة النِّكاح»: [البقرة : 237]. وآيات أخرى تُسخدَم فيه كلمة «النِّكاح» بمعنى الزواج. وعليه، يتبيَّن أن تحرُّجاتنا في شأن العلاقة بين الرجل والمرأة لم تعد اجتماعيَّة فحسب، بل باتت أيضًا تحرُّجًا ممَّا جاء بصريح «القرآن». وما قلتَه ذكّرني بما أورده (إبراهيم نصر الله)، في روايته «براري الحُمَّى»- وهي روايةٍ ضمَّنها إشارات صريحة إلى أشخاص من بسطاء الناس، بأعيانهم وأسمائهم، رجالًا ونساءً، وبما لا يليق- على الأقل من وجهة أمثالك، يا ابن أبي العنابس- مسجِّلًا انطباعاته الذاتيَّة، إبَّان عمله مدرِّسًا في (القُنفذة). والشاهد في ما أورده حول سؤال أحد تلاميذه ببراءة، وبلسانٍ عربيِّ مبين: لماذا لا تنكح؟ أي تتزوَّج. وقد ساق العبارة- وهو المعلِّم، ربما للغة العربيَّة- على أنها إشارة جنسيَّة طريفة من تلميذ عمره سبع سنوات!(1) وهذا ما لا يخطر في ذهن أحد ممَّن يستعمل الكلمة في تلك المناطق، وإنَّما يشار بها إلى الزواج، حسبما جاء بها الاستعمال العربيُّ، وكما جاءت في «القرآن الكريم». أمَّا مَن انبتَّ عن لغة العَرَب، أو أنكر ماضيهم، فليذهب إلى حيث شاء!
وكَمْ مِن عائِبٍ قَولًا صَحيحًا
وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ «المُعَلَّبْ»!
... ... ...
(1) انظر: نصر الله، إبراهيم، (1992)، براري الحمَّى، (عمَّان: دار الشروق)، 81.