عثمان بن حمد أباالخيل
كل إنسان في هذا الدنيا له ذكريات جميلة وأخرى حزينة مخزّنة في ذاكرته، الذكريات هي عبق الماضي الذي ينعش الحاضر. هذا بيت شعر امرئ القيس:
(قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدخولِ فَحَومَلِ)
هذا البيت أخذني إلى الوراء خمسة عقود حين وقفت على أطلال بيتنا الطيني في حي الشريمية في مدينتي الحبيبة عنيزة. بيتنا الذي له ذكريات جميلة ومواقف أجمل. مهما بلغ الإنسان من العمر ستبقى بداخله لحظات محفورة للأبد حيث يصعب نسيانها مهما طال عليها الزمان وفرقتها الأيام. هذه الذكريات لا تستطيع أية قوة في الوجود أن تمحوها. أقتبس (مشكلتي الحقيقية ليست النسيان، مشكلتي كثرة الذكريات) الدكتور غازي القصيبي رحمه الله.
ذكرت الدراسة التي نشرتها صحيفة «تلغراف» البريطانية والتي أجرتها جامعة ساري جنوب لندن، أن الحنين إلى الماضي يعطي شحنة إيجابية لدماغ الإنسان على اعتبار أنه يحرك عواطفهم وما أكثر ما تتحرك عواطفي ودموعي حيث أمي- رحمها الله- تسألني في كل مرة أخرج فيها من البيت وين رايح؟ فتكون إجابتي: (عند الباب عند اللمبة) فهي اللمبة الوحيدة التي تضيء شارعنا الضيق. لا تزال شوارع عنيزة الضيقة وبيوت الطين المتلاصقة القديمة وصدى الأصوات تحمل خصوصية في ذاكرتي كل شيء كان جميلاً في الماضي، في زيارتي الأخيرة وقفت على أطلال بيتنا وأغمضت عيناي وعدت إلى الوراء أتذكر كل شيء، أصدقاء الطفولة وأسماء الجيران وذلك المخبز الذي نقف أمامه في الطابور ومدرستي الابتدائية المدرسة السعودية. ترى هل ترجع الذكريات، ونعيدُ ترميم ماضينا الجميل، وما أجمله رغم إن الحاضر له جمال لكنه بوجوه أخرى.
سيطرة الماضي على الحاضر يؤدي بشكلٍ حتمي إلى ضغوطات نفسية وذات تأثير سلبي على العقل، فهناك ذكريات حفرناها داخل أعماقنا وصور حفظناها في عيوننا، يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- الحياة هي الذكريات والذكريات هي الحياة. ماضي الكثيرين منا لم يكن ورديًا وخاليًا من المتاعب كما يتصوره أغلبنا، فكلما تقدم العمر وتسرب الشيب إلى الرؤوس تعب العقل والقلب. وما أكثر ما تعب عقلي وقلبي، وما أكثر ما ذرفت عيوني وما أكثر ما تزورني العبرات. وكما يقول العلماء فالذكريات مخزنة في اللوزة الدماغية، وقشرة المخ، والحصين، فعندما يريد الإنسان تذكر الماضي يجده مخزنا في الدماغ عن طريق إعطاء إشارات معينة للتذكر فيحدث ذلك بكل سهولة، شخصياً فقدت هذه الخاصية فالذكريات تزورني يومياً فهي محفورة على الصخر وليس على رمل الطريق.
وفي الختام وما أجمل الختام حين تعيش الماضي بكل تفاصيله وأنت في الحاضر. التصالح مع النفس والتوازن بين ذكريات الماضي وعذوبة الحاضر مطلب نفسي، الحياة تكاملية بين الماضي والحاضر. قد يكون الماضي حلواً إنما الحاضر أحلى بجمال من حولك وطيبة نفسك وعلو ذاتك.