فاطمة بنت مسفر الجعيد
كيف يرحلُ مَنْ خطاه أثرٌ، وأفعاله شيمٌ، ووجوده قيمةٌ؟!
كيف يرحلُ مَنْ يبلورُ الإنسانية، فتتجسدُ أفعالًا تُحيي الأرواحَ، وتبلسم المنهك منها؟!
كيف يرحلُ مَنْ يشعلُ جذوة الحياة فينا، ويحمي تلك الجذوة حتى لا تعرفُ الأفول؟!
كيف يرحلُ مَنْ رسالته المعرفة، همه تنميتها، وإيصالها بصورتها الصحيحة دونما التباس؟!
كيف يرحلُ مَنْ ترى الوطن في كلامه، في أبسط أفعاله، في مواقفه، في الأزمات، في الشدائد، يبادر بفكره النير، وعمقه المعرفي، وثقافته الإدارية المدركة لأدق، وأبعد التفاصيل؟!
كيف يرحلُ مَنْ جاوز عطاؤه الفكري، والمادي، والنفسي كل التوقعات؟!
كيف يرحلُ مَنْ أنار الطرق للسالكين، مَنْ أخذ بيد الحيارى والتائهين، مَنْ دعم، مَنْ ساند، مَنْ آزر، مَنْ أخذ بيد كلِّ طموح إلى أهدافه، وكل محتاج إلى غايته؟!
مَنْ كان ملهمًا، من كان رمزًا متفردًا كيف يرحل؟!
لَنْ يرحلَ، حتمًا لن يرحل وإن رحل جسداً فهو باقٍ مخلدٌ في الأرواح، والذاكرة. فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. هو: ابن الوطن البار محسن بن نايف، عَرابُ الجودة -كما نعرفه جميعاً- الذي فُجع كلُّ من يعرفه بوفاته قبل أيام. الموت نهاية حتمية مقدرة بتوقيت إلهي دقيق، حقيقة نؤمن بها، ونستدرك من خلالها الجوهر الحقيقي للحياة، والوجود الإنساني. تمر علينا بتفاوت نسبي، وبقدر ما تكون قيمتنا الحقيقية في الحياة، وأثرنا الممتد بقدر ما نخلد في ذاكرة الأوطان، والأحداث والأشخاص. حين توليت مهمة القيادة التربوية قبل سنوات، كانت رسالتي تأسيس ثقافة مؤسسية جذورها الجودة، وإطارها التميز، سعيتُ لها بكل ما أوتيتُ من طاقةِ، وسخرت لها جُلَّ جهدي، ووقتي، وإمكاناتي، فكان المعين لي -بعد الله- في مرحلة التأسيس، كتاب: استراتيجية نظام الجودة في التعليم، لمؤلفه: محسن بن نايف.
وحينما حققنا التميز، والتصدر على مستوى الوطن وقف -رحمه الله- مشجعًا لي، ولفريق عملي الرائع. لستُ الوحيدة التي أفاض عليها من واسع خبرته، ودعمه، وتحفيزه، كل من يقترب منه سيناله ذلك الشرف؛ فإشعاعه المعرفي يمتدُ لِيصلَ سناهُ لكلِّ عاشقٍ للمعرفة، ومغرم بها. استهواني عالم المعايير، وأنظمة الجودة العالمية المتجددة بتجدد المتطلبات، والتسارع المعرفي، والتقني. تعلمتها، ومارستها، وتأهلت فيها، وكانت المواصفة الحديثة ISO21001:2018 أول مواصفة متخصصة في إدارة النظام التعليمي على مختلف قطاعاته، ورغم حداثة المواصفة، ولإيمان محسن بن نايف بجدوى تطبيقها، ومدى التغيرات التي ستحدثها في واقع المنظمات التعليمية، وحجم المكاسب التي تمتد لجميع الأطراف المعنية تولى ترجمتها، وشرح جميع متطلباتها، في كتابٍ -عمل عليه عامًا كاملًا- أصدره -مؤخراً- ليكون دليلاً إرشادياً يسهل عمل من يتبنى النظام، ويسعى لتجويد ممارساته من خلال عمليات التحسين المستمر، والوفاء بمتطلبات المستفيدين.
طبع الكتاب على نفقته الخاصة وأهدى للكثيرين منا نسخاً منه مرفقاً به نسخة معربة من المواصفة. وكانت أمنيته أن يوزع الكتاب في جميع أنحاء العالم العربي، والإسلامي كونه أول كتاب يشرح متطلبات المواصفة، ويسهل عمل من يتبنى تطبيقها.
وليس هذا الكتاب وحده ما أتيح للجميع، بل إن جميع مؤلفاته في الجودة يحرص دائماً أن ينشرها في شبكات التواصل الاجتماعي، لحرصه الشديد على تنمية المعرفة، ونشر مفاهيمها العميقة، وتصحيح المغلوط منها.
«المعرفة قوة» جسدها محسن بن نايف في جميع مبادراته التي كان يتقدم بها لوطنه في عدة مجالات حيوية، في الدراسات المنفذة لإيجاد حلول جذرية للأهم قضايا الساعة، ومن خلال الاستعانة بمؤلفاته في الأدلة التنظيمية، والإجرائية لمدارس التعليم، جسدها في «تنمية المعرفة» تلك الشركة التي أسسها على أرض صلبة من المصداقية، والشفافية، وحرص كل الحرص على سمعتها السوقية كمنشأة، وعلى سمعته كمستشار موثوق لتطوير الأعمال، ونظم الجودة.
عرفته، كما عرفه غيري، وكما ترحموا عليه قبل أيام؛ علاوة على كونه مرجعًا موثوقًا في التطوير المهني، والشخصي، محبًا للخير، قويًّا في الحق، داعمًا لمن يصنع النجاح، رجل فضيلة ومبدأ، واضح وضوح الشمس.
يوم وفاته تراجعت فيه عن مهمة كانت تنظرني، وإذا بتغريدة في حسابه -في تويتر- تلهمني المضي فيما كان ينتظرني (عند حدوث العقبات، أو المصائب -سمها ما شئت- لا خيار لك سوى الرجوع للخلف، أو التقدم للإمام، إذا اخترت التراجع فلن تمنع العقبات، إذن عليك استقبالها، وامتصاص الصدمة. كلاعب يستقبل الكرة على صدره، ثم يركض للإمام).
وبالأمس واجهتني عقبة فألهمتني تغريدته هذه على تفاديها، واستعادة أنفاسي من جديد: (لا يأتي النجاح في الحياة نتيجة المرور بمواقف جيدة، لكنه ينبع من الإدارة الجيدة للمواقف الصعبة).
ذلك المحسن ملهم في حياته، وبعد الرحيل!
رحمك الله يا محسن الإنسان، وجعل مستقرك دار كرامة، ونعيمًا مقيمًا.
حقيقة:
يعلمنا موت العظماء أن الموت ليس النهاية، وأن السيرة العطرة حياةٌ أخرى، والذكر الطيب عمر طويل.