اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد حظيت إسرائيل منذ نشأتها برعاية القوى الكبرى التي تبنتها مقابل مشاطرتها المحافظة على مصالحها في المنطقة، متنقلة من دولة إلى أخرى حتى حطت رحالها في كنف الولايات المتحدة الأمريكية التي نمت إسرائيل وتطورت في ظلها وتحت حمايتها، موفرة لها الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي مع ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والمعنوية على الدول العربية، والعمل على زرع عوامل الفرقة بين العرب لخدمة إسرائيل.
وبفضل هذه الرعاية تمكنت إسرائيل من التفوق العسكري المطلق على العرب، كما حصلت على الدعم العسكري غير المحدود، وتوفرت لها حصانة سياسية تحصنها في المحافل الدولية ضد أي ضغوط تتعرض لها في مجلس الأمن بالإضافة إلى السيل الذي لا ينقطع من المساعدات المادية والمعنوية، ناهيك عن التعهد بديمومة تفوقها عسكرياً وتقنياً على الدول العربية مجتمعة، والمحافظة على أمنها على حساب أمن جيرانها مع عرقلة أية جهود تقوم بها أي دولة عربية لمنافستها.
ومن الواضح أن الدول العربية أدركت نقاط ضعفها واستوعبت دروس العقود الماضية على ضوء اختلال ميزان القوة العسكرية واتساع ميدان الهوة التكنولوجية، مما دفع بها إلى اعتناق الواقعية السياسية، واتخاذ موقف أكثر اعتدالاً من موقف بعض أصحاب القضية الذين بالغوا في المراهنة على صراع لم يعد موجوداً، حيث قادتهم المراهنات البائسة إلى الزج بالآخرين في مواقف خاسرة جلبت معها الكثير من التجارب المؤلمة التي مهما تقادم عليها الزمن يبقى تأثيرها النفسي والمعنوي يتجدد وصداها يتردد.
وعلى ضوء ما حصل من تحول في الموقف الفلسطيني، وما تخلل هذا التحول من اتفاقات وبُني عليه من سياسات وترتب عليه من نجاحات وإخفاقات تشكلت الأرضية الصلبة التي انطلقت منها مبادرة السلام العربية التي بادرت بها المملكة العربية السعودية وتبنتها الدول العربية في قمة بيروت عام 2002، تلك المبادرة التي بقدر ما تمثل تحولاً مماثلا في الموقف العربي بقدر ما تعد تتويجا لتطور الموقف الفلسطيني على النحو الذي يزيد من فعاليته ويؤكد مصداقيته.
وهذه المبادرة تمثل إجماعاً عربياً يرى من خلاله الزعماء العرب أن السلام مع إسرائيل يعد خياراً استراتيجياً يتعين على الطرف الإسرائيلي القبول به في سبيل إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وإنهاء النزاع الذي استمر عقوداً زمنية، مهدداً عوامل الاستقرار في المنطقة ومعرضاً الأمن الإقليمي لدولها للخطر إلى الحد الذي جعل المنطقة بأسرها عرضة للمحن وميداناً للفتن بسبب ما تعانيه من أطماع الطامعين وتربص المتربصين.
وتتكون مبادرة السلام العربية من عدد من المحاور التي تجسد جوهر الحل في صيغته الكلية والشاملة دون أن تنزلق في متاهات الصيغ الناقصة والمراحل الزمنية السائبة التي يجد فيها الطرف الإسرائيلي مجالاً للمناورة والمداورة بطريقة تتيح له الانحراف عن المسارات المعلومة والالتفاف على الحقائق والخطوط المرسومة.
وتوضيحاً لذلك فإن من أهم ما يميز مبادرة السلام العربية أنها تتسم بالشمولية والوضوح، وذات مرجعية سياسية تجعل الحل في الصيغة المقبولة، بعيداً عن التجزئة المخلة والتفصيلات القابلة للتعطيل والتأويل، كما هو واقع الحال بالنسبة لتلك الحلول الجزئية المنقوصة التي عادة ما تنطوي على تفسيرات مغرقة في الإبهام والإيهام.
وتنص مبادرة السلام العربية على دعوة إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967م تنفيذا لقراري مجلس الأمن (242 و338) ومبدأ الأرض مقابل السلام مع القبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك مقابل إقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل في إطار سلام شامل يراعي حل مشكلة اللاجئين وكل ما من شأنه تحقيق استقرار المنطقة واستباب الأمن لدولها.
ورغم ما تضمنته هذه المبادرة من خيارات استراتيجية وتنازلات تاريخية إلا أن الكيان الإسرائيلي لم يبد منه ما يدل على جنوحه إلى السلم نظراً لأن العقلية اليهودية المتأصلة في هذا الكيان تؤمن بأن الحرب عمل مقدس والقوة فوق الحق، وعن طريقهما يتم تحقيق أهداف إسرائيل نحو الهيمنة على المنطقة وبناء دولة اليهود الكبرى عليها بعد خلق حقائق جديدة وضمانات كفيلة بالمحافظة على كيان تلك الدولة واستمرار بقائها، ولكن لسان المقال وواقع الحال عند إعلان المبادرة كما قال الشاعر:
يقول لك العقل الذي بين الهدى
إذا أنت لم تدرأ عدواً فداره
وتأسيساً على ذلك فإن الدولة التي مضى على وجودها غير المشروع على أرض فلسطين ما يزيد على سبع عقود دون أن يكون لها حدود معلنة، وأبواب الهجرة إليها مفتوحة من جميع يهود العالم ليس من السهل انخراطها في عملية سلام يرضى بها الخصم لأن اختلال ميزان القوة لصالحها جعل نظرتها إلى السلام تتحول من استجابة الدعوة إلى إحلاله إلى فرضه وإملائه.
ولإخفاء ما تؤمن به من ثوابت جائرة، وتبرير ما تمارسه من ممارسات منكرة، كان لا مندوحة أمامها من اللجوء إلى ذرائع تتخذ منها مشجباً تعلق عليه أسباب عدم جنوحها للسلم ورفضها قبول الدعوة إليها، فتارة تتذرع بالإرهاب وهي التي تمارس إرهاب الدولة وتارة ثانية تحتج بالخلاف بين الفلسطينيين وهي التي تغذيه، وتارة ثالثة تلجأ إلى المصطلحات الأمنية المعهودة التي ترددها كل ما اضطرت إلى الخروج من مأزق سياسي أو أرادت التوسع واستخدام العنف.
وقد وجدت إسرائيل في الظهير الأمريكي والانفراد بالفلسطينيين والاتفاقات التي تصب في صالحها فرصتها لتضييع الوقت وتمييع المواقف توطئة لتمرير المحاولات والحصول على المزيد من التنازلات وصولاً إلى السلام الذي ينسجم مع رؤيتها ويتسق مع سياسة فرض الأمر الواقع التي تسير جنباً إلى جنب مع التوسع والاستيطان وما يتطلبه ذلك من إضفاء الشرعية على الواقع المفروض.