عبد الرحمن المعمر
الحديث عن الشخصيات التي مرت وانقضت حديث مؤثر مؤلم فما كدت أمسح الدموع على الشيخ عبدالعزيز بن محمد المبارك حتى فجعتني الأحداث وفاجأتني الحوادث بخبر وفاة الشيخ نايف العصيمي وجيه الطائف ووجهها المعروف، والواجهة المشرفة لكل من عرفه، والذي اشتهر في الطائف بلقب (الريس) لترؤسه الفرع المالي وعدد من المناشط الاجتماعية والأندية الرياضية. كان نايف أمة في رجل نذر نفسه للخدمة العامة وضحى بالكثير متصدياً لمصالح الآخرين، كما كان مقصداً ملجئاً لكل من احتاج إليه، شغل نفسه بالناس أو كما يقول العامة (وكيل آدم على ذريته) وكأنه المقصود بقول الشاعر:
هذا الذي أوصاه آدم إذ مضى
بعياله فهم عليه عيال
وفقيدنا هو نايف بن محمد سعيد أبو ظهير العصيمي، وللايضاح فاسم والده (محمد سعيد) اسم مركب والأسماء المركبة كانت كثيرة في مدن الحجاز، أما هو فجمع بين نايف من ناف في اللغة أي زاد، ومحمد من الحمد، وسعيد من السعادة، وأبو ظهير من الظهور والبروز، والعصيمي من العصامية، فجمع العصامية والزيادة والحمد والسعادة والبروز غفر الله له. لا أتذكر كيف عرفته ولا متى، لكنني أذكر أنه كان يسكن في أحد أحياء الطائف القديمة (حارة السليمانية) الذي أزيل منذ عقود وبقي موقعه إلى الآن قاعاً صفصفاً في وسط المدينة. كان ذلك الحي أشبه بمدينة مصغرة فيه أسواقه ودكاكينه وبيوته وحماماته وأزقته وبرحاته ومطاعمه ومقاهيه وكان يحده من جهة الشرق شارع الملك سعود الذي تقع على جانبه مقاهي الحي، بل الطائف الشهيرة مثل قهوة الغربي وقهوة الزمريق ومن جهة الغرب شارع البريد المؤدي إلى مسجد حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ومن كان يأتي إلى المسجد من الجهة الشمالية فلا بد أن يجوس في عرصات السليمانية، ومن معالم ذلك الحي (حمام الشفا) الذي كان آخر الحمامات التركية بالطائف، ومن البرحات الشهيرة في السليمانية برحة الزرقي وبرحة بن سليم. كان نايف في ذلك الوقت من موظفي فرع وزارة المالية بالطائف ثم نقلت خدماته لوزارة الدفاع والطيران التي كان مقرها الطائف منذ إنشائها في عهد الملك عبدالعزيز، ثم نقلت في بداية عهد الملك سعود إلى الرياض وبقي لها مقر في الطائف فكان هو ممن انتقلوا للرياض، ثم عاد رئيساً للفرع المالي في وزارة الدفاع بالطائف. ومنذ عرفته وهو يقضي نهاره في العمل والسعي في حاجات الناس، أما في الليل فقد أسس ندوة أو جلسة اشتهرت كأحد (بشك) الطائف والبشكة مصطلح معروف في الحجاز، وبشك أو بشكات الطائف تستحق أن يفرد لها بحث مستقل لما كان لها من أدوار اجتماعية وثقافية وترفيهية. كانت (بشكة الريس) تبتدئ من بعد المغرب إلى ما قبل الفجر وكل مصاريفها على حساب هذا الرجل الكريم!
كان كل من جاء إلى الطائف ويريد أن يعرف ما الذي دار فيها أثناء غيابه يتجه إلى البشكة يستمع إلى ما حصل من مشكلات أو مشاريع أو أخبار أو وفيات. وأذكر أن معالي الدكتور بكر بن عبدالله بن بكر مدير جامعة البترول والمعادن والسفير السابق في دمشق وتونس أول ما يصل الطائف يتجه إلى البشكة. ثم بعد أن أزيلت السليمانية نهائياً انتقلت البشكة مؤقتاً إلى بيت عبدالقادر بن حريب على شارع شبرا جنوب مبنى الخطوط السعودية والموقع الآن أصبح مستوصف أسنان يملكه الأخ محمد عواد الجهني، واستأجر الجزء الخلفي من بيت ابن حريب مقراً مؤقتاً للبشكة إلى أن انتهى من بناء عمارة كبيرة من عدة أدوار في الجزء المقابل من الشارع وخصص مقراً دائماً للبشكة في دور الميزانين أو ما كان يسمى سابقاً بالمسروق وهو بين الدورين الأرضي والأول، وهذا الدور له مدخل خاص وأصبح يستقبل فيه الزوار صباحاً والسمار مساء ويقيم حفل عشاء كل أسبوع وللبشكة أعضاء دائمون وآخرون زائرون من كل الطبقات والفئات تدور فيها أحاديث وتعقد ندوات ومسامرات ويجد عشاق البلوت بغيتهم ومتابعي مباريات كرة القدم متعتهم، والزوار راحتهم، وأصحاب الحاجات حاجتهم. وفي الصباح ينطلق (الريس) كما يحلو لأهل الطائف أن يسموه، إلى دوائر الحكومة لقضاء حوائج الناس ومساعدتهم وحل مشكلاتهم. يروي ابني العميد سلطان الذي عمل في المرور لسنوات وكان صديقاً للشيخ نايف أنه لم يأت للمرور في حاجة له، بل يأتي لقضاء حاجات الآخرين يسدد الرسوم ويدفع الغرامات عنهم من جيبه الخاص، وما يحصل في المرور يحصل في البلدية والجوازات وبقية الجهات.
كان نايف صديقاً للإعلاميين والفنانين فحين كانت الحكومة تنتقل إلى الطائف خلال أشهر الصيف، كان رجال الإعلام يأتون لتغطية الأخبار والمناسبات الرسمية، ومن الأعلام الذين تعرفت عليهم في تلك الأيام الدكتور محمد الصبيحي الدكتور بدر كريم والمذيع الشهير بكر يونس والمذيع الأستاذ محمد بن عبدالرحمن الشعلان والأستاذ الأديب لقمان يونس وأصله من جاوه من جزر الأرخبيل الإندنوسية، لكنه عاش في الحجاز وكان يجيد اللغة الإنجليزية وعمل في الطائف في عدة دوائر حكومية ثم انتقل إلى المنطقة الشرقية وأقام بها وعمل في فرع وزارة الإعلام وشركة أرامكو. كل هؤلاء كانوا من رواد البشكة،كما كان الشاعر محمد طلعت والفنان طارق عبدالحكيم والفنان عبدالله محمد وغيرهم من أعلام الوسط الإعلامي والفني والرياضي من روادها أيضاً.
كنت أسمع بالفنان الكبير والموسيقار الشهير طارق عبدالحكيم الذي لحن وغنى أغنية يا ريم وادي ثقيف من كلمات الأمير عبدالله الفيصل وأغاني أخرى كثيرة، وطارق من أهل الطائف ووصل إلى رتبة زعيم أو عميد في الجيش، وكان رئيس فرقة موسيقى الجيش العربي السعودي حين كان الأمير منصور وزيرا للدفاع، ثم استمر بعد ذلك.
وذات يوم في عام 1400هـ كنت في مكتبي بدار ثقيف للنشر والتأليف وكان مقرها على شارع شهار بجوار مطابع الزايدي ففوجئت بنايف يدخل ومعه الفنان طارق عبدالحكيم ولم أكن قد التقيت بطارق قبل ذلك، وكان مكتب دار ثقيف يستقبل إعلانات حجج الاستحكام وكان الموسيقار يريد الإعلان عن حجة استحكام.
فرحت بهما وبعد أن أنهينا صيغة الإعلان وأرسلناه إلى الجريدة مد طارق يده إلى جيبه لكي يسدد قيمة الإعلان فرفضت وقلت له إن الموضوع كله 100 ريال فقال لا، أنا سوف أدفع لأنني لا أحب أن استغل صداقة الناس ومحبتهم لي. فقلت له ليست استغلالاً، لكنها استثمار، فأنا سأتحمل الـ100 ريال قيمة الإعلان، وسأدعوك لتغني في زواج أولادي وتتحمل أنت التكلفة بآلاف الريالات فقال رحمه الله: لا لا أنا سوف أجيء أغني من دون فلوس فقط علمني متى الزواج وأنا حاضر، ونحن في هذا النقاش كان نايف غفر الله له قد ذهب للمحاسب وسدد المبلغ دون علمنا. كان الكرم والسخاء في نايف طبعاً لا تطبعاً وجبلة لا تصنعاً وسخاءً لا تساخياً:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
وسمعت أن والده محمد سعيد العصيمي من أوائل من أحضر إلى الطائف الطاحونة الكبيرة لطحن الحبوب أو ما كان يسمى بالبابور. حيث كان سكان الطائف يستخدمون المطحنة اليدوية أو ينزلون إلى مكة لطحن الحبوب ثم العودة بها إلى الطائف وهذا الأمر كان فيه عناء ومشقة. أما نايف فرائد من الرواد في الرياضة والسياحة والعمل المجتمعي فهو من أوائل من أسس المشاريع السياحية حيث افتتح مطعماً ومقهى سياحياً أسماه كازينو حدائق نجمة في شارع الملك سعود وكان ذلك في نهاية الثمانينيات الهجرية. ثم أسس مع أخيه أحمد مطاعم عصيمي برجر كأول مطاعم الوجبات السريعة في الطائف، كما أنه من أوائل من أنشأ مع إخوته قصور الأفراح، ولا يمكن أن تذكر الرياضة وتاريخها في الطائف إلا ويذكر معها الريس. فقد شارك في نادي الكواكب ثم أسس نادي وج في عهد الملك عبدالعزيز، وترأس لاحقاً نادي عكاظ، وكان له في كل من هذه الأندية سهم واسم فهو رائد في الرياضة ورائد في الجلسات الشعبية ورائد في السياحة وكان كل ذلك على حسابه الخاص.
لقد كان الشيخ نايف صالحاً ومصلحاً وكان أمراء الطائف السابقون يجعلونه من ضمن لجان الإصلاح التي تسعى بالصلح بين المتخالفين والمختلفين حتى يختصرون القضايا. كما كانوا يكلفونه في المناسبات التي تقام في الطائف لتكريم ولاة الأمر بالاتصال بالأهالي وإشعارهم بالمناسبة وجمع التبرعات، ومن رياداته التي لا يعرفها كثير من الناس أنه في عهد الملك سعود كان أهالي الطائف يقيمون احتفالات شعبية في كل حارة والملك رحمه الله يشرف هذه الحفلات التي تتخللها بعض الكلمات والأناشيد والعرضات والرقصات الشعبية. وكان نايف يتولى المساهمة في ترتيب هذه الاحتفالات وفي أحد الأيام ذهب للسلام على الملك سعود ودعاه لرعاية مباراة كرة قدم بين نادي وج الذي أسسه ونادي أشبال المنصور (فريق الجيش في ذلك الوقت) وحضر الملك المباراة على ملاعب نجمة بحي العزيزية.
كان نايف عضواً في عدد من اللجان والأنشطة المجتمعية والأسابيع التي تقام كأسبوع التجميل والشجرة وأسبوع النظافة وغيرها، فقد بذل حياته رحمه الله للخدمة العامة والشعبية.
وهناك جانب آخر وهو معرفته ببيوتات وأسر وقبائل الطائف، فإذا أراد أحد أن يخطب زوجة وهو من غير أهل الطائف فإنه يذهب للشيخ نايف للسؤال عن تلك الأسرة، ويجد لديه إجابات دقيقة عنهم ومن أي قرية حول الطائف أو من المدينة نفسها أو من ضواحيها أو من منطقة أو مدينة أخرى من المملكة أو من المهاجرين الذين أتوا من بلاد أخرى، وهذه المعلومات لا يعرفها إلا القليل. ولما توفي الممثل والفنان عبدالعزيز الحماد رحمه الله الذي كان من أوائل الممثلين السعوديين في بدايات التلفزيون، كما كان يعمل محرراً فنياً في صحيفة «الجزيرة» حين كنت رئيساً لتحريرها، وكانت زوجته الإعلامية سلوى شاكر.. فكتبت مقالاً أرثيه وأعزي زوجته فيه وأردت التأكد عن أسرة شاكر التي تنتمي لها الأستاذة سلوى ففي الطائف ثلاث أسر كلهم بيت شاكر وكذلك في مكة وجدة والمدينة، فاتصلت بالأخ نايف العصيمي وقلت له إن هناك اكثر من أسرة في الطائف يحملون اسم شاكر قال نعم، فسألته عن الأستاذة سلوى شاكر زوجة الفنان عبدالعزيز الحماد من أي آل شاكر لأنه في الطائف شاكرون كثيرون. قال أبوها اسمه عبدالمعين شاكر وعمها عبد المنعم شاكر الذي كان مدير مطبعة الجيش وموقعها في القشلة وهو اسم تركي يعني ثكنة الجيش. ولما أردت معلومات عن الدكتورة فاتنة أمين شاكر وهي أول سعودية تتولى الإشراف على رئاسة تحرير مجلة سيدتي، اتصلت به أيضاُ فأبلغني بأن والدها أمين شاكر من أهل قرية الفتات قرب ليه على طريق الجنوب. والدكتورة فاتنة مد الله في عمرها من رائدات الإعلام والتعليم فقد عملت في الإذاعة والتدريس الجامعي. وأذكر أنني مرة احتجت لمعلومة عن رجل برز في الطائف وكان مدير دائرة البرق والبريد واللاسلكي والهاتف اسمه محمد سعيد أبو ناصف وأنا إنسان أحب البحث عن المعلومات الدقيقة فسألت الأخ نايف والأستاذ محمد خلف الزايدي وقد أجابني الاثنين ان هذا الرجل من وجهاء الطائف وكانت تربطه صلة قويه بالأمير فيصل حين كان نائب الملك في الحجاز وبيته من أشهر بيوت الطائف وأجملها ويقع في السوق وهو الآن مقر البنك الأهلي.
ومن اهتمام نايف بالتاريخ أنه زار دمشق قبل سنوات ومعه مخطوطة كتابه (العرب البائدة، العاربة، المستعربة) وكان صديقه الدكتور بكر عبدالله بن بكر سفيراً للسعودية في سوريا قبل عهد العناء على الشام، وصادف أن كنت قد تديرت الشام وأتردد بين حين وآخر على الصديق القديم الدكتور بكر أمد الله في عمره، وقابلت نايف الذي كان يتردد على دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر وهي أحد دور النشر القديمة في الشام لمراجعة وتحقيق الكتاب، كما اتفق مع المؤرخ الدكتور فردوس الأتاسي الذي راجع مسودات الكتاب، وكنت أتمنى لو أنه كتب مقدمته. هذا الكتاب أو الدراسة استغرق جهداً ووقتاً كبيراً من نايف وصدر في ثلاثة مجلدات عن نادي الطائف الأدبي.
وللتدليل على محبة نايف للطائف وأهلها ولمن ولي الولاية فيها، أنه لما ترجل المحافظ فهد بن عبدالعزيز بن معمر عن العمل بعد خدمة أكثر من ثلاثين عاماً كتب نايف كلمة في الكتاب الذي صدر في تلك المناسبة من إعداد الزميل الأستاذ حماد السالمي، وقد أعدت قراءتها ووجدت فيها لمحات تدل على التمكن ومعرفة الحياة العامة في الطائف وقد تطرق فيها الى أربعة ممن حكموا الطائف من آل معمر منهم عبد الله بن محمد وعبدالعزيز بن فهد وناصر بن صالح وفهد بن عبدالعزيز.
والآن أنا أتوجه بالطلب إلى الأخ محمد خلف الزايدي وهو صديق مشترك لي وللأستاذ نايف ولديه كم كبير من الذكريات عن الطائف وأسرها وأعلامها وعلمائها وأحيائها وأفيائها وخارجها ووالجها وقد كتب بعض الذكريات في مجلة الغرفة التجارية في الطائف، لكنها لا تكفي ولا تشفي فأرجو أن يدون ما لديه من معلومات وذكريات. كان نايف أسرع الناس إلى التهنئة في النجاحات والأفراح أولهم في التعزيه في المصائب والأتراح. كان رحمه الله حليماً كريماً سمحاً متسامحاً ليناً هيناً متجاوزاً عن زلات الاخرين متحملاً الثقلاء، وهذه لعمري من مكارم الأخلاق والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهذه أخلاق لا يستطيع عليها إلا العصبة أولو القوة، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
هذه النماذج من الرجال الشرفاء والكرماء هي من تستحق أن يبكى على فقدها. أكتب هذا والعبرة تخنقني والدموع تحاصرني والأحزان تحيط بي، فهذا قليل من كثير وغيظ ومن فيض ونم من يم. لقد فقدت الطائف علماً من أعلامها وكريما من كرمائها وكبيرا من كبارها.
إن فقد الكبار رزئ عظيم
ليس فقد الرعاع والأرذال
وبعد فهذه بعض الخواطر التي عنت لي وأنا أسترجع الذكرى والذكريات مع نايف والطائف لأكثر من نصف قرن.
رحم الله الشيخ نايف العصيمي وأسكنه في عليين وأحسن عزاءنا وعزاء أهله ومحبيه وكل من يعزى فيه...