د.فوزية أبو خالد
في كتابة السيرة هناك سيرة تكتب لتسفر عن سيرتها الشخصية، وهناك سيرة تكتب لتستر سيرتها الشخصية، وهناك سيرة تعلي من قيمة البوح، وهناك للمفارقة الضدية سيرة تعلي من شأن الصمت، هناك سيرة الشخص ومقابلها سيرة الجماعة ومثلها، هناك سيرة الفرد وهناك سيرة المجتمع وهناك سيرة مزدوجة تجمع بين الشخصي والعام. ومع أن أدب السيرة يعود تاريخياً لما قبل بداية التاريخ الميلادي إلا أنه لم يدخل حيز التدوين ويخرج على حيز سرديات الاعترافات الكنسية التي بدأ بها أوروبياً منذ القرن السادس عشر لفضاءات معرفية أعمق وأوسع تتعدد فيه مجالات السيرة من الأدب للأنثروبولوجيا ومن العمل التوثيقي للعمل الفاتنازي ومن شهادات العيان للهذيان الذاتي وما بينهما من أطياف وتموجات إلا في القرن العشرين. وذلك باستثناء مبكر نادر تمثّل في اعترافات سانت أوجستين التي أرادها تدويناً لديانته، فيما اعتبرت فيما بعد نظراً لنفسها الحكائي الحميم في سرد حياته من مرحلة الطفولة لمرحلة الشيخوخة مرجعية أولى لما عُرف بكتابة السيرة بمعناه في الأدب الغربي الحديث وفي أوعيته المعرفية من التخصصات العلمية إلى الحركة الثقافية. ألا أن باكورة كتابة السيرة المعتد بها ما قبل القرن العشرين كانت في المرحلة الرومانتيكية من الأدب وتمثَّلت في مذكرات بن فرانكلين العالم والسياسي الأمريكي وأحد كتّاب إعلان الاستقلال الأمريكي، جان جاك روسو الفيلسوف والمفكر السويسري ومنظر الثورة الفرنسية، والشاعر الإنجليزي لورد بايرون بسيرته الشعرية والحياتية التي لا تزال محط جاذبية لدراسات معمقة. ويعتبر المختصون في دراسة الكتابات السيرية إن تلك المذكرات كانت أعمالاً مؤسسة لانطلاقة هذا النوع من العمل التدويني نظراً لمشتركاتها في التعبير عن عالم الذات الخاص والحميم وعن روح عصرها في تفاعلاته على الصعيد العام.
ومثلما تتعدّد السيرة في مسمياتها داخل حاضنتها الأولى في الإطار المعرفي الغربي وفي لغات وثقافات أخرى أيضاً كمذكرات، يوميات،مدونات,
Diaries, journals, memoirs, biography, autobiography
، فإنها تتعدّد في مواقيتها التي تتراوح من الكتابة اليومية الفورية،المتقطعة أو التراكمية إلى الاسترجاع التوثيقي ومن الاعتماد على الذاكرة الفردية إلى الذاكرة المشتركة، كما تتعدّد في أهدافها وقيمتها من الأدبي للسياسي ومن السري للعلني. وبجانب هذا التنوّع تتعدّد أشكال السرد وضمائر الرواة والحبكة الحكائية وأسلوب الكتابة ونسبة تسريب الأسرار بشهدها أو بعد تمريرها على «شبكة الرقابة السرية والسافرة». وإن كان القول بمثل هذا النوع من التعدّد قد يبدو للوهلة الأولى مميعاً للبصمة الذاتية وكأنه يناقض الشرط الموضوعي والجمالي لكتابة السيرة بما يفترض فيها من عفوية وتلقائية وجرأة أدبية وشفافية عالية ولا غائية بالمعنى النرجسي وبالمعنى الأخلاقي والأدبي، فإن مدارس النقد الأدبي والنقد الثقافي والقراءات التحليلية والنقدية للعلوم الاجتماعية قد وضعت يدها بالبحث النظري والميداني لكتابة السيرة على تعدّد أشكال ومضامين وأغراض كتابة السيرة دون أن يعني ذلك استبعاد تلك العناصر الأساسية الصانعة لأدب السيرة كالمصداقية والشجاعة في البوح وفي التعبير الصادق أو الصادم أحياناً. كما وضعت تلك الدراسات يدها على شرط لازب من شروط كتابة السيرة في فضائها الخاص والعام وفي تعالقهما وهو شرط الحرية. فبدون روح حرة ومغامرة وبدون حرية التعبير وضماناته القانونية تصعب كتابة السيرة بمعناها المصطلحي الدقيق المفضي لتمجيد التجربة الإنسانية سواء فردية، اجتماعية أو متمازجتين بكل ما عليها من لوعة الأخطاء والهزائم والكبوات والندم والحزن، وبكل ما فيها من نشوة الفوز والنجاح والحب والفرح والانتصارات
وإذا نظرنا لكتابة السيرة في العالم العربي فسنجد أنها تراوحت بين الشخصي والعام، وبين البوح الشفيف والتحفظ، ومع أن بدايتها متجذّرة مع طلائع الأدب العربي الحديث بداية القرن العشرين وفي مده التصاعدي لذروة الستينات والسبعينات إلا أن مد كتابة السيرة بحد ذاته ظل محاصراً بمحدودية الحرية في المناخ السياسي والاجتماعي العام.
ومع أنه أصبح لدينا بالجامعات السعودية أساتذة متخصصون في دراسة كتابة السيرة (ذاتية، اجتماعية..) أذكر منهم د. صالح الغامدي، د. عبدالله الحيدري، د. أمل تميمي والقائمة في تنام منتج - بإذن الله- فإن كتابة السيرة بأقلامنا لا تزال في حكم المغامرة إن لم يكن المخاطرة إلا أن ذلك لم يمنع عدداً منَّا من إعادة ابتكار العجلة بما يناسب المساحات المتاحة والمسارب الضيِّقة والطرق غير المعبدة إلا بالأمل، فظهر عدد من كتب السيرة (المحافظة) وإن لم يفقدها ذلك زخم الذات والمجتمع في حياة حفلت بسجال الجمود والتحولات. وإن كنتُ سأعود لقراءة الكتاب الذي أثار شجن هذا المقال وهو كتاب سنوات الجوف ذكريات جيل د. عبدالواحد الحميد، فإنني أختم بذكر عينة من المغامرين الأوائل في كتابة السيرة بمجتمعنا السعودي الذي هو بأمس الحاجة لكتابة سيرة ذاتية واجتماعية لأطياف مجتمعية واسعة من التنوّع والتعدّد في مرحلة تاريخية مفعمة بالمد والجذر والتجاذبات والتحديات.
ومن هذه العينة المبهجة لكتابة السيرة:
أيامي أحمد السباعي، حياتي مع الجوع والحب والحرب عزيز ضياء، سوانح الذكريات حمد الجاسر، سيرة شعرية غازي القصيبي، حياة في الإدارة غازي القصيبي، قطرات من سحائب الذكرى عبدالرحمن السدحان، حكاية الفتى مفتاح عبدالفتاح أبومدين، أديم الزمن عبدالعزيز الخويطر، بدايات محمد القشعمي، مسيرة خليل إبراهيم الرواف، من حياتي محمد سعد بن حسين، عشت سعيداً من الدراجة إلى الطائرة عبدالله السعدون، زمن للسجن أزمنة للحرية علي الدميني، رحلة التغيّر في الديرة عبدالرحمن الفرج، قلب من بنقلان سيف الإسلام بن سعود، مذكرات امرأة سعودية سامية عامودي، أربعون في معنى أن أكبر ليلى الجهني، وكمين الأمكنة الجزء الأول، حكايتي بعد التسعين عبدالعزيز النعيم، من البادية إلى عالم النفط علي النعيمي، تجربتي مع الكلى عبدالرحمن بوحيمد، مشيناها عبدالرحمن الشبيلي، صفحات مطوية خليل الرواف، أشق البرقع لأرى هدى الدغفق.
وإلى ذكريات جيل الأسبوع القادم بمشيئة الله.