اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وكما يشكل الإجحاف الإسرائيلي عائقاً في طريق مبادرة السلام العربية فإن الخلاف الفلسطيني لا يعتبر عائقاً أمامها فحسب، بل يعد طعنة في الظهر بالنسبة لمبادرة السلام والقضية الفلسطينية على حد سواء، حيث إن ذلك يعطي المبرر للكيان الإسرائيلي لكي يمضي في سياسة التصلب التي اعتاد على ممارستها، متجاهلاً المبادرة من جهة وملتفاً على اتفاقه مع السلطة الفلسطينية من جهة أخرى.
والكيان الإسرائيلي عندما يتنصل عن اتفاقه ولم يستجب لمبادرة السلام، فالأمر غير مستغرب والتعامل معه يخضع للمد والجزر، ولكن الخلاف ين أصحاب القضية يدخل في فلك الإساءة إلى النفس، وهنا يمكن الداء العضال الذي ينذر بسوء المآل، لما يفضي إليه هذا الخلاف من مآلات تفتح الباب على مصراعيه للفتن الداخلية ومزيداً من التدخلات الخارجية.
والخلاف بين حركة التحرير وحركة حماس خلاف قديم جديد ينبثق من الاختلاف في المرجعيات الإيديولوجية إلا أن الخلاف استفحل بعد تأسيس السلطة الفلسطينية وفقاً لاتفاقية أوسلو التي تعارضها حركة حماس متهمة السلطة بالانقلاب على نتائج التجربة الديموقراطية التي فازت بها والعمل كوكيل أمني لإسرائيل، في حين أن السلطة تتهم حماس في العمل على تقويض سلطتها وتدمير مشروعها السياسي والانقلاب على الشرعية الفلسطينية والحركتان ينطبق عليهما قول الشاعر:
شر المصائب ما جنته يدٌ
لم يثنها عن ظلمها رحم
إن الخيانة ليس يغسلها
من خاطئٍ دمع ولا ندم
وهذه القيادات الفلسطينية المنقسمة على نفسها وصل بها الخلاف إلى التشهير ببعضها البعض، وكيل الاتهامات المتبادلة التي يحاول من خلالها كل طرف اتهام الطرف الآخر بالخيانة والتآمر لمصلحة العدو، معترفاً كل منهم بسوء الصنيع وارتكاب الأمر الشنيع، فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وقطع الطريق على قيام الدولة الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطيني إلى كيانين متناحرين.
وقد وجدت إسرائيل فرصتها في هذا الخلاف بالانقلاب على عملية السلام وتحويلها في الاتجاه الذي يخدمها بحجة أنها لا تعرف مع من تتعامل معه بسبب الشقاق الحاصل بين الفلسطينيين الذي ربما يكون لها يد في وجوده واستمراره، لكي تقول للعالم بأنها لم تجد قيادة موحدة تتفاوض معها مع إظهارها بأن الشعب الفلسطيني إرهابي يقاتل بعضه بعضه الآخر، مستغلة الوقت لمزيدٍ من الاستيطان وخلق حقائق جديدة وفرض وقائع متجددة.
والواقع أن الأحداث أثبتت أن حركة حماس التي تتأرجح بين محور إيران ومحور الإخوان وتركيا لم يكن النضال الفلسطيني هدفاً لها، بقدر ما تهدف إلى استثمار القضية والمتاجرة بها والمقاومة المزعومة ما هي إلا وسيلة للاستفادة من القضية في ميدان الصراع ومزاد النزاع وقد قال الشاعر:
وادعى الهدى في الأنام رجال
صح لي أن هديهم طغيانُ
وقد آن الأوان لتحكيم العقل والجلوس على طاولة المفاوضات والدخول في مصالحة جادة تعيد الوفاق وتنهي الشقاق، بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتدخلات الأجنبية التي يريد أصحابها بقاء القضية على حالها، وتوظيفها للمزايدة والمساومة بما يخدم هؤلاء الأشرار على حساب القضية الفلسطينية والأمة العربية.
والمطلوب هو إصلاح الذات واعتبار الخلاف من الماضي مع التركيز على إصلاح الوضع الداخلي وتقوية روح الوحدة الوطنية بالشكل الذي يضمن الاستقرار ويعالج القضايا والمشكلات الاجتماعية والأمنية التي يعاني منها المجتمع، تمهيداً لانطلاق النضال السياسي من أرضية صلبة تقوم على جبهة داخلية قوية، تساعد بدورها على إيجاد المناخ الملائم لإجراء مراجعة شاملة ذات آفاق أمنية وسياسية واسعة، يتم على أساسها صياغة خطط تفاوضية تتخذ من مبادرة السلام العربية مرجعية لها وقد قال الشاعر:
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجرٌ
إذا حضرت أيدي الرجال بمشهدِ
ومن المعروف أن مبادرة السلام العربية تعثر مسارها ولم تصل إلى خيارها، ومرد هذا التعثر يعود إلى الموقف الإسرائيلي والخلاف الفلسطيني، الأمر الذي يتطلب بذل الجهد نحو تفعيل المبادرة عن طريق السياسة الفاعلة والإعلام المؤثر، وكل ما من شأنه تحريك محاورها وتغذية مصادرها، بما يضمن إقناع الطرف الإسرائيلي بالعدول عن سياسة المكر والخداع والممارسات البعيدة عن الإقناع.
ووقت إعلان المبادرة كانت الظروف شبه ملائمة، والقضية تحتل موقع الصدارة من حيث الاهتمام العربي والدولي، أما الآن وقد استمر الاحتلال في فرض الأمر الواقع تلو الآخر وبالتحديد عمليات الاستيطان وجدار العزل العنصري وتهويد القدس، علاوة على ما تشهده المنطقة من تحولات غير عادية وتحديات خطيرة، منها تداعيات ما يعرف بالربيع العربي وتدخل نظام الملالي في المنطقة وزيادة نفوذ النظام التركي في الوقت الذي يعاني فيه العرب من حالات التخاذل والانقسام، كل ذلك نجم عنه تراجع بالنسبة للقضية الفلسطينية وضعف معها الأمل في إيجاد حل سريع لها، مما يحتم على الفلسطينيين الاتحاد وتجديد وسائل النضال السلمي وإعادة الروح للعمل الشعبي، كما يتعين على الدول العربية توحيد كلمتها والنهوض من كبوتها في سبيل تنفيذ المبادرة مهما كانت الصعوبات والإقدام على بعض المقاربات.