د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بتعدد نظرياته وتمدد نظراته لم يستطع دارسو» الجمال» الوصولَ إلى معنىً يجمع شتات رؤاه وصُواه، فاقتنعوا أن التوافق حوله عبث، والرؤية من زاويةٍ واحدة تحجب زوايا متفرقة، واليقين بذائقة شخصٍ لا يتبعُها رضا شخوص، والحكاية أن لكلٍ وجهتَه؛ فقد تبدو الخيمة قصرًا والرمل تبرًاً، والأمر في المعنويات لا يختلف عن الماديات، وهنا لا يحتكم النطقُ إلى نطاقٍ ولا منطق.
** للنار مرأىً فاتنٌ في ليالي الشتاء بالصحراء، لكنها تحرق الأكفَّ إذا لامسنها كما قال «المعري»، وقبله أيقن «المتنبي» أن الهوى يُذلُّ العاشقين، والذي عشق «شمطاء شاب وليدُها» لم يأبهْ بمنتقديه، ومن لا يثمِّن لوحةً عالميةً لا تثريب عليه، وربما صدَّر مجلسَه الفخم بصورة نخلة مائلة تطل على بئرٍ مهجورة.
** تلك هي حكاية صاحبكم مع «لبنان» الذي أحبه حين زاره أول مرة في حياته وقت الحرب الأهلية فرأى الحِراب والخَراب، والدبابات والتفجيرات، فلم تَضرْه وأبصر غيرَ ما رأى فهو الإرادةُ والبذل، والإنتاجُ والعمل، وحبُّ الحياة والتفاؤل، واستعاد ما قاله «أبو ماضي» حول وقوف الأحداث دون فناء لبنان وأمل ذويه، ومنذ ذلك الوقت صار مربعَه ومنتجعَه متجاوزًا سوءَ الخدمات وضيق الطرقات وغلاء المعيشة وتجاذبات الساسة.
** أما مناسبةُ هذه الحكاية فلا شأن لها بواقعٍ ولا وقائع، بل برحيل أستاذٍ كبير وقديرٍ كان السببَ في تحقق أول رحلة لصاحبكم نحو «الذرى الشم» حين اختاره ضمن وفدٍ رسميٍ للوقوف على أحوال مصانع لبنان وقت أن اختلطت منتجاته بأخرى من فلسطين المحتلة فأوقفت المملكة الاستيراد منه، وحين اشتكى تجارُه كُلف مع آخرين من معهد الإدارة والجمارك للوقوف المباشر على الوضع فوجدوا أكثر من مئة وثمانين مصنعًا عاملًا في بيروت وحدها.
** وعى الجمال بلغة العمل والأمل، والابتسامة رغم البؤس، والذوق مع الضيق، والانتصار وسط الهزائم؛ فالجمال لا يرتهن لمعادلاتٍ طرفيةٍ ذات قياساتٍ ومسافات، وقد هجر الإمام الغزالي «هوى ليلى وسعدى» و«كسر مغزله» مفضلًا عزلته.
** لنعدْ إلى التكليف الذي بدا في زمنه عقوبةً لشابٍ متطلعٍ للحياة يُرسَل نحو الموت بهاتف محبة من المدير العام لمعهد الإدارة بالنيابة آنذاك (رحل أوائل شهر صفر 1442هـ- الثاني والعشرين من شهر سبتمبر «أيلول» 2020م ليفقد «المعهداريُّون» أحدَ مؤسسي معهدهم العتيد) وهو الأستاذ عبدالله بن زامل الإبراهيم الزامل السليم الذي كان ممن اختارهم الشيخ محمد أبا الخيل - أولُ مديرٍ للمعهد - ليعملوا معه حين كُلّف بإدارته، - تقاعد مبكرًا وهو على وظيفة نائب المدير العام للبحوث قبل أكثر من ثلث قرن - وقد ظلَّ لصاحبكم أستاذًا وصديقًا ارتبط معه بلقاءٍ أسبوعيٍ منتظم لم ينقطع إلا قريبًا بسبب حالة «أبي هيثم» الصحية، وشهدناه في أخريات أيامه وهو يستعيد ذكرى أستاذنا الراحل فهد الدغيثر ثاني مديرٍ عامٍ للمعهد؛ رحمهما الله.
** الحياةُ قرارٌ لا اختيار.