د. عبدالله بن ثاني
تذكرت محمود السعدني وأنا أتابع لقاء الأمير بندر بن سلطان الذي كشف المستور ودهاليز المواقف السعودية وصدق نوايا ملوكها وحكومتها ومواقفها الدبلوماسية وجهود دبلوماسييها في حل قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، وأذهلني صدقاً أن الكل كان يزايد على فلسطين والكل كان يستغلها لمشروعاتهم الخاصة وأن النص عليها في البيانات الأولى لثورات القومجيين العرب في فترة الانقلابات الناصرية لم تكن في محلها، وكانت فلسطين وشعبها هم الغائبين الحقيقيين عن كل هذه المغامرات والمشروعات الخاصة، لم يتوقف ذلك الخطاب الرسمي العربي ذو الملاح التي تدعو لعدم الارتياح من خلال الهيمنة عليه بالصراخ والجعجعة والفذلكة بل إنه ما يزال مستمراً بصفاقة فاقدة للحياء والاستحياء، فهذا الحوثي يهتف الموت لأمريكا والموت لإسرائيل ولكنه يستهدف مكة المكرمة بصواريخه ودولة اليمن وشعبها وحضاراته العريقة، وهذا حزب الله وخطابات أمينه حسن نصر الله الذي يطلق على نفسه حزب المقاومة والممانعة ولكنه يستهدف السوريين واللبنانيين ولم يسلم شبر في لبنان ومستقبله السياسي من تدخلاته، وهذه إيران ترعى فيلق القدس وتمرد حماس على جهود السلام ولكن قائد الفيلق قاسم سليماني يطوف العواصم العربية للاستيلاء عليها وتفكيك نسيجها وتصدير الثورة إليها وإشعال فتيل الخلاف بين حماس والسلطة الفلسطينية حتى شهد العالم أبشع صور الانتقام بقطع الأنوف والرمي من الشواهق في غزة، فأي ثقة يمكن بعد ذلك بيننا وبينهم وأي قضية يمكن أن نتفق عليها بعد كل ذلك التربص والتآمر والاستهداف، وكلما ضاق الخناق على رئيس استحضر قضية فلسطين لإنقاذ نفسه ونظامه ولا أدل على ذلك من فعل جمال عبدالناصر الذي يريد تحرير فلسطين من طريق اليمن وجنوب المملكة وصدام حسين الذي يريد تحرير فلسطين من طريق الكويت وحدود السعودية وأصبح يستهدف الرياض في الوقت الذي يستهدف تل أبيب استغلالاً لفلسطين وشعبها في احتلاله الكويت ومغامراته التوسعية غير المسؤولة، وكذلك لم تخل خطابات القذافي من فلسطين وتشويه مواقف السعودية ثم يعرض مشروع إسراطين بطريقة مفاجأة ومضحكة للجميع دليلاً على المزايدات الفاشلة، وكذلك فعل علي عبدالله صالح الذي لم يصمت إلا بعد أن قال له الرئيس المصري حسني مبارك «حديك قطعة أرض وتعاله أنت وجيشك وحارب إسرائيل مش ح منعك»، وكانت الساحة العربية مملوءة بشعارات مزيفة ونوايا غير صادقة، ولم تكن تستحضر مصلحةالشعب الفلسطيني العظيم الذي ضرب أروع الأمثلة في إيمان العالم بقضيته وحضورها في روح المؤسسات الدولية ونجح في بقائها في الوجدان العربي والإسلامي واعتراف شرفاء العالم بحقوق ذلك الشعب وإن كانت بعض مواقف قياداته لا ترقى إلى مستوى الأخوة النبيلة والحاجة لمواقف الأشقاء الدبلوماسية بل كانت على النقيض تماماً بكل أسف، وعلى الرغم من أحداث أيلول الأسود وأحداث المخيمات في لبنان ومواقف السلطة الفلسطينية أيام غزو الكويت ومواقف حماس من الخليج ودعم المشروع الإيراني في المنطقة ومشروع التتريك الأردوغاني إلا أن شرفاء العرب وعلى رأسهم ملوك السعودية والخليج لم يغيروا من مواقفهم الأصيلة تجاه هذه القضية التي يرون ضرورة حلها والجلوس على طاولة المفاوضات وتقديم تنازلات من الطرفين للعيش بسلام ونزع فتيل التوتر في هذا الجزء من العالم، ولذلك لم تخل قمة عربية أو إسلامية من طرح مشروع سعودي تجاه فلسطين وشعبها الشقيق بل سمى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- آخر قمة باسم قمة القدس والتصريح دائماً على حقوق الشعب الفلسطيني بإقامة دولتهم المستقلة وفق قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية...
نعم أثناء حديث سمو الأمير بندر وهو حديث الخبير السياسي الذي كان شاهداً على عصر مملوء بالتشويه والارتزاق والتشكيك بتلك المواقف السعودية تفاجأ المواطنون والعرب والمسلمون بحجم التحديات التي واجهت القيادة دون يأس ودون خذلان ودون تخلي عن المسؤولية، ولم يكن يعلم المواطن السعودي شيئاً عن كل ما كان يتم ويجري في دهاليز المطبخ السياسي، وبعد كل ذلك الحديث الموسوم بالشفافية أصبح المواطن السعودي على يقين أن ما قام به ملوكهم في كل القضايا التي عصفت بالأمة كغزو العراق وأفغانستان والكويت واليمن يكون في سياق الإنسانية وأخلاق العروبة ومسؤوليات الإسلام، وسيأتي من يكشفها للعالم ذات يوم.
وأثناء عرض سموه للقوى التي كانت تشاغب وتتآمر على أي قرار عربي حكيم فقد تذكرت مذكرات محمود الولد الشقي في المنفى بعد أن غادر مصر نتيجة موقف الرئيس السادات في كامب ديفيد، ووقفت على الجزء الأخير الذي وصف به تجربته في المنفى من أجل قضايا الأمة العربية آنذاك فقال ص312 : «والذي قتلني رعباً أن الحملة على مصر لحظة ذهاب السادات إلى القدس لم يكن هدفها إصلاح الأخ الأكبر وعودته إلى الطريق القويم ولكنها كانت تستهدف قتل الأخ الأكبر والاستيلاء على مكانه ومكانته ولقد بدا هذا واضحاً عند تقسيم التركة».. وقال أيضاً: «وعدت بيقيني أن الحرب العربية - العربية أشر ضراوة من الحرب العربية الإسرائيلية وأننا نعيش عصر داحس والغبراء وإن كان الذي نعيش فيه أخطر لأنه حرب دواحس وغبراوات»، وكذلك استحضرت ما كتبه عمرو موسى عن تلك الحقبة وما فيها من تحديات جسيمة في مذكراته في كتاب «كتابيه» ما واجهه عظماء مصر وعلى رأسهم الرئيس السادات الذي اختار اللعب بمفرده كما وصفه موسى وبأنه كان رجلاً جريئاً يقال له بالعامية «باجس» أي لا يهتز بسهولة، وأدرك الجميع الآن إستراتيجية السلام وعودة الأرض، وتأكد للشعوب العربية أن كل تنازل يعقبه تنازل أقوى منه ولو أن العرب رضوا آنذاك لكانوا في حال أفضل.
نعم لم يضر القضية الفلسطينية على مدى تاريخها مثل عاملين مهمين في الساحة السياسية على السواء ويمكن للعرب والمسلمين على السواء تحميلهما مسؤولية كل الفوضى في الساحة السياسية قبلاً وبعداً، هما: الأحزاب القومية البعثية والاشتراكية والشيوعية التي حكمت جماهير الأمة من جهة والتي تحدث عن دورها الأمير بندر في وأد كل تقدم لحل القضية ومحاولة تهديد الوفود الفلسطينية المتفاوضة، وحزب الإخوان المسلمين ورموز الخطاب الحركي الذي كان يسعى رموزه وشخصياته في أدبياتهم وخطابهم التنظيمي إلى تأزيم المواقف والتهييج ضد الحكومات من جهة أخرى حتى أصبحت مهمة كل من يبحث في السلام مستحيلة وعقيمة على السواء.
وتفصيلاً لذلك فإن الجهة الأولى أفرزتها حقبة ما بعد الاستعمار وحركات التحرير الوطني وأفرزت معها رؤساء مغامرين، فتم غزو الناصريين لليمن والصداميين للكويت واستهداف الخليج والتآمر على بقية العرب بخطابات ومواقف لم تكن تحمل أي مسؤولية لميثاق جامعة الدولة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي على السواء، وبعد كل هذه السنين أدت تلك المرحلة المرعبة مرحلة الأخوة الأعداء على زعم الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي إلى الفوضى الخلاقة بعد أحداث سبتمبر والتي كان من نتائجها ما يسمى بالربيع العربي فوهن عظم العرب واشتعلت الرؤوس شيبا وكانت مواقف الشخصيات الفلسطينية دائماً في الطرف المقابل، وكان الأداء غير متناغم مع حاجتهم لمواقف إخوانهم في الخليج والعرب والمسلمين الشرفاء مما هيأ المنطقة للسيطرة الإيرانية بعد الغزو الأمريكي للعراق وتنفست الثورة الإيرانية الصعداء وبدأت تصدر شرها المستطير في مشهد لم يكذبه العيان حتى تدخلت في تفاصيل شؤون الآخرين وهددت الأمن القومي العربي بعامة والخليج بخاصة واستباحت العواصم العربية التاريخية بحركات تمرد في ظاهرها القضية الفلسطينية ولكن في باطنها تدمير الأمة العربية وتفريق المسلمين وتشتيت تضامنهم حتى وجدنا أنفسنا جميعاً أمام استحقاقات لا تقبل الخيار ولا الاقتسام ولا أنصاف الحلول، لتنتهي كل الآمال بطمس مصطلح المصير المشترك من معجم الدبلوماسية ومبادئ الأخوة الإسلامية والشرف العربي على يد أولئك الرؤساء المغامرين والطائفيين التعساء.
وأما الجهة الأخرى فقد أفسد التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وما تناسل عنه من السرورية والتكفير والهجرة وتنظيم القاعدة وداعش وغيرها من التنظيمات التي اتخذت من قضية فلسطين شعارات غير واقعية وفتاوى غير منطقية مما أفسد أيضاً كل جهود الشرفاء في العالم العربي لتوحيد الرأي والموقف المشترك، فوقفوا بماكينتهم الإعلامية دائماً مع محاور الشر ضد هذه المنطقة ومصلحة شعوبها وشرعنوا تغريد حماس خارج السرب العربي وفرحوا بمغامراتهم التي كانت تنعكس سلباً على واقع القضية الفلسطينية وشعبها الشقيق، وحكى سموه عن محاولات ملوك السعودية في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم وتقديم النصيحة المخلصة لهم إلا أن هناك من يسعى لخلاف ذلك بشيطنة حماس والفصائل الفلسطينية وفعل عكس ذلك تماماً.. ونجحوا في توظيف كل الأدلة والمقاصد والتفاسير في شحن الأمة ضد السعودية بخاصة والخليج بعامة، وكلا العاملين (الأحزاب والتنظيم) استغل قضية فلسطين من جانبه، والخاسر الحقيقي من كل ذلك الاستغلال هي فلسطين والإنسان الفلسطيني.
وبين سموه أن كل وقت يمر على القضية تصبح التنازلات أكبر من الأولى والخسارة أكثر من مبادرة إلى مبادرة تليها، ولذلك ما زلت تصديقاً لحديث سموه أذكر قبل عشرين سنة هجوم عبدالباري عطوان على المبادرة العربية التي طرحتها السعودية في مؤتمر بيروت آنذاك فكتبت مقالاً في يوم السبت 18 ذو الحجة 1422هـ الموافق 2-3-2002م في جريدة «الجزيرة» العدد 10747 ، بعنوان «التطبيق المتعمق للرؤية الإسلامية في قراءة شرعية للمبادرة»، وكان في المقال عرض لفتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء والتي نشرت في كتاب بعنوان (حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الإسلامية) في طبعته الأولى 1417هـ وفي ذلك المقال: «وإليك وإلى المسلمين فتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء والتي نشرت في كتاب بعنوان (حكم الصلح مع اليهود في ضوء الشريعة الاسلامية) في طبعته الأولى 1417هـ.
* سماحة الوالد: المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام واتفاقياته، الأمر الذي آذى كثيراً من المسلمين مما حدا ببعضهم معارضته والسعي لمواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء، ومنطقهم يقوم على الآتي:
أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة.
ب - أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حالة الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة. نرجو بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟
فأجاب: «تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك، لقول الله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 61)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعاً، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين، فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم وأجل من لا عهد له أربعة أشهر.. وبعث صلى الله عليه وسلم المنادين بذلك عام تسعة من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله القول في ذلك في كتابه (أحكام أهل الذمة) واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. والله ولي التوفيق.
وأجاب أيضاً رحمه الله تعالى على الأسئلة الصادرة من أعضاء جمعية الشريعة الإسلامية بجامعة الكويت بخصوص الهدنة مع اليهود.
- فهم بعض الناس من إجابتكم على السؤال الصلح مع اليهود أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض والمعتدين جائز على إطلاقه وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية وفي أجهزة إعلامها زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا. وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب فنرجو من سماحتكم التوضيح؟
فأجاب سماحته: «الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم. بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك كالبيع والشراء وتبادل السفراء وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم. وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا. وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجراً صلحاً مطلقاً.. ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم ودعوتهم إلى الله وترغيبهم في الإسلام، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله. ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة ولا محبة ولا موالاة أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد ولم يحدد مدة معينة، بل قال صلى الله عليه وسلم (نقركم على ذلك ما شئنا) وفي لفظ (نقركم ما أقركم الله) فلم يزلوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه، وروي عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما فرض عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص. فقال رضي الله عنه: والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم، وإن شئتم أخذناه بذلك. وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة ولا موالاة ولا مودة لأعداء الله، كما يظن ذلك بعض من قلّ علمه بأحكام الشريعة المطهرة وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيره من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والمولاة. والله ولي التوفيق.
- هل يجوز بناء على الهدنة مع اليهودي تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع مع الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصادياً وغير ذلك من المجالات بما يعود عليه بالمنافع العظيمة ويزيد من قوته وتفوقه وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه كالنيل والفرات وإن لم يكن جارياً في أرض فلسطين؟
فأجاب سماحته: «لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها. فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر فلا بأس في ذلك. والواجب على كل من تولى أمر المسلمين سواء كان ملكاً أو أميراً أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر عملاً بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...} (النساء: 58) وقوله سبحانه: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..} (الأنفال: 61) وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر.
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس... وقد يقول قائل إن اليهود مغتصبون وبالتالي لا يجوز الصلح معهم، وهذا ما طرحه الشيخ يوسف القرضاوي فأجابه صاحب السماحة أن قريشاً قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم كما قال الله سبحانه في سورة الحشر {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر 8). ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم ومن يرغب الدخول في الإسلام. والله من وراء القصد،،،،
** **
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية