د. عبدالحق عزوزي
هناك كتاب مرجعي مهم أصدره في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عميد في جامعة هارفرد الأدميرال جوزيف ناي، سماه «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية» وأكد في أكثر من فصل مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية أو ما سواها وهي التي يمكنها أن تحقق الهيمنة الثقافية، فنجده يكتب مثلاً: «إنه وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوى الخشنة، ومن خلال استعمال القوة من قبل القوى الكبرى، إلا أنه قد يشكل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية»، لذا فأمريكا: «إن أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأمريكيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة».
فالهيمنة الثقافية هي الفكرة أو المفهوم القائل إن الثقافة الواحدة، عن طريق الإرادة المباشرة أو مجرد مركزها المهيمن في العالم، تمارس تأثيراً مفرطاً على الكيفية التي ينبغي أن تمارس بها الثقافات الأخرى نفسها من حيث القيم والتطلعات السياسية والاقتصادية...
وكتب مؤخراً جوزيف ناي مقالة بـProject Syndicate عنونها بـ: «الجغرافيا السياسية بعد الجائحة»، يذكر فيها أن تقديرات التأثيرات على المدى الطويل للجائحة الحالية ليست دقيقة؛ ويضيف أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام (2030) وبدلاً من ذلك يتنبأ بإمكانية حدوث خمسة سيناريوهات محتملة كالتالي:
- نهاية النظام الليبرالي العالمي.
- استبداد سلطوي يشبه فترة الثلاثينات.
- نظام عالمي تهيمن عليه الصين.
- أجندة دولية خضراء.
- استمرار الوضع الحالي. تعاون مع الصين في قضايا معينة مثل (تغير الأوبئة، التغير المناخي) وبنفس الوقت استمرار المنافسة في قضايا أخرى مثل (حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي).
ويؤكد أن التطوير السريع للقاحات الفعالة سوف يعزز استمرارية المنافسة ويقلل من احتمالية السيناريوهات الاستبدادية الصينية. ويختم أنه قد ينتج عن جائحة كوفيد تغييرات محلية مهمة تتعلق في الرعاية الصحية والتعليم...
هاته السيناريوهات العامة والهامة التي أتى بها السيد ناي في مجال الجغرافية السياسية الجديدة بعد جائحة كورونا تحتاج في نظري إلى شرح وإلى تصويب أكبر... فالذي يحدث يكمن في أن البيئة الدولية الجديدة أصبحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؛ فالقوة بالمفهوم القديم لن تصبح لها أي معنى، إذ تكفي حروب على شكل هجمات إلكترونية أو نشر أسلحة فيروسية لا ترى ويجهل مصدرها للقضاء على الأخضر واليابس... فلن تعود بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق وكما وصفها الإستراتيجي جوزيف ناي في كتابه سالف الذكر، ولن يعود للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واقتصاديات أخرى واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية المقبلة.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ستظهر الصين وبعدها روسيا في ظل هاته البيئة الدولية المعقدة على شكل قوتين ستثقان في نفسيهما ولربما استعملتا أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل.. ونحن نتذكر كيف يمكن لتدخلات إلكترونية من التأثير بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الغربية.
ثم لا جرم أن جائحة فيروس كورونا المستجد قد ينتج عنها تراجع نسبي للولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة خاصة وأنها تعاملت بشكل أخرق مع جائحة فيروس كورونا المستجد، مما أدى إلى تراجع هيبتها على نحو كبير. وكل هذا قد يؤدي إلى استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض مناطق العالم. ولكن هذا لن يمنع من ولادة جديدة لليبرالية. فالأزمات الكبيرة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف....
وأخيراً إذا سلمنا أنه سيتم تبني أجندة دولية خضراء أكثر واقعية، فإنه في المقابل سنشهد تصاعد النبرات القومية في العديد من دول العالم مما سيؤدي إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي.