د. إبراهيم بن محمد الشتوي
لكن الاحتمال الثالث وهو أن يتلقى الرسالة أكثر من متلق خاص، فيخرج بمعنى مغاير عن المعنى العام في سياقه العام يبقى قائماً وإن كان سيثير سؤالاً عن كونه خاصاً بعد ذلك، وإذا كان الجواب على هذا السؤال بأنه سيظل خاصاً لأنه خاص بالمتلقي منفرد به عن المعنى العام الآنف الذكر، فإن هذا الجواب سيثير سؤالاً آخر وهو: وهل المعنى أصلاً إلا خاص بمعنى كل متلق يقع في نفسه من الكلام المعنى الذي يتصل به شخصياً وبظروفه النفسية وحالته التي يعيشها.
وعلى هذا فإن النظر إلى المعنى الذي يقع في نفس المتلقي على أنه عام أو خاص قد يخالف طبيعة المعنى، إلا أن الأعراف جرت على أن هناك معنى عاماً أو مشتركاً هو الذي يشترك السامعون بإدراكه من كلام المتكلم، فإذ شذ سامع عن هذا المعنى أو وقع في نفسه معنى آخر مغاير لهذا أو ولد معنى هو جديداً من كلام المتكلم، فإنه يعد معنى خاصاً به مبايناً للمعنى العام الذي يفرضه السياق العام.
وهو ما قد يعد في باب التأويل الذي يأخذ فيه الكلام مسارب مختلفة من المعنى، وقد يختلف المعنى باختلاف القارئ أو السامع بناء على ما يجده في نفسه ساعة تلقي النص، والقول في التأويل قول واسع.
وهذا بخلاف ما ورد في بيت المتنبي، فإن الرابط بين المعنى الخاص هنا والمتكلم يكاد يكون معدوماً بخلاف ما ورد هناك، فإن الرابط موجود، من خلال قصد المتكلم، ومعرفة السامع بهذا القصد بدلالة قوله: «الذ عنى»، ففي حالة المتنبي هناك موجه للكلام وموجه له، والموجه له يدرك ما جاء في حديث المتحدث، وكأن المتنبي يتكلم عن حالة خاصة يكون فيها تواطؤ بين المتكلم وأحد السامعين، قد يكون بناء على موقف سابق، أو بناء على ألفة بينهما خاصة لا يريد أن يظهرها للحاضرين أو لأن هناك من الموضوعات ما لا يريد أن يحدث بها الحاضرين أجمع فيعمد إلى تضمين كلامه كلاماً آخر يتبعه ببعض إشارات اليد أو الوجه مما يوحي بالبعد الآخر للكلام لمن يعنيه.
وهناك نماذج من الشعر يذكر فيها الشعراء حالات ضمّن فيها المتحدثون أقوالهم أقوالاً وقد أدرك المتلقي ذلك وغالبها تكون في الحب وأحواله كقول الشاعر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
إشارة محزون ولم تتكلم
وقول الآخر أيضاً وأظنه يذكر خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وحي: الاسم أي ما يوحى به، والملاحظ: جمع لاحظ وهي العيون، وفي هذا توظيف للجوارح في إيصال الحديث الخاص.
بيد أن هناك نماذج أخرى لا تقتصر فيها الرسالة على الإشارة بل تتجاوزها إلى العبارة، وقد أشار ابن حزم في «طوق الحمامة» إلى هذا النوع من الخطاب الذي يتوجه فيه المتحدث إلى سامع خاص في محفل عام وسماه التعريض، وأورد حكاية فتى وفتاة –كما يسميهم- أحب أحدهما الآخر، فأراد الفتى أن يحمل فتاته على ما لا تريد، وقالت: والله لأشكونك في الملأ علانية، ولأفضحنك فضيحة مستورة، فلما كان بعد أيام حضرت الجارية مجلس بعض أكابر الملوك، وأركان الدولة، وفيهم ذلك الفتى لأنه كان بسبب من الرئيس، فلما بدأ الغناء وانتهى إليها تغنت بأبيات قديمة هي:
غزال قد حكى بدر التمام
كشمس قد تجلت من غمام
سبى قلبي بألحاظ مراض
وقد الغصن في حسن القوام
خضعت خضوع صب مستكين
له وذللت ذلة مستهام
فصلني يا فديتك في حلال
فما أهوى وصالاً في حرام
ومراد ابن حزم من هذه الحكاية أن الفتاة حين غنت بالأبيات أظهرت خبرها مع الفتى بالتفصيل، ولكن لأن الأبيات محفوظة من قبل لم يفطن الحاضرون إلى الرسالة المبطنة داخلها سوى الفتى الذي جاءه الرد من الفتاة عن طريق الأبيات بوصفها رسالة مباشرة منها إليه، وبوصف الاختيار مقصود لذاته.
يبقى هنا الحديث عن مقدار الصحة والخطأ بمعنى مدى تطابق ما وقع في نفس السامع مع ما في نفس المتكلم، وإذا كنا قد أقررنا بصحة فهم السامع في الحالة التي أشار إليها المتنبي، فإن الحالات الأخرى لا يمكن أن نجزم بصحتها، ولكننا لن ننساق وراء البحث في قيمة صحة الكلام من خطئه بوصفه «فاعلاً» في تحديد قيمة الكلام أو المعنى، وهو حديث طويل، يحيلنا إلى ما قيل عن انفكاك الصلة بين الدال والمدلول أو ما سماه الغذامي في «الخطيئة والتكفير» فيما يرويه عن رولان بارت «باعتباطية الإشارة».