د.قيس بن محمد المبارك
وهب الله الإنسان عقلاً يدرك به الأشياء، ليقف على ظواهرها، ويسبر غَوْر ما خفي منها، ووهبه قلباً يَفيض بالمشاعر، فالعقل دليلٌ وكاشفٌ للحقيقة، ولا حقيقة أعظم من الإسلام، والقلب سوطٌ سائق، فما أعظمُ أن ينقاد القلب للحق فيَهْواه، وقد قال عمر بن عبدالعزيز: «إذا وافق الحقُّ الهوى، فذاك الشَّهْدُ بالزُّبْد» ومن رحمة الله بالإنسان أنه حبَّبَ إليه الخصال الحميدة، وهي النظافة والطهارة، الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، فقد كان صلى الله عليه وسلم أنظف الناس خُلُقاً وخَلْقاً، بدناً، وثوباً، وبيتاً، كان يتفقَّدُ أظافرَه، فيقصُّها، وأسنانَه فيسوكُها، وحبب إليه الرحمة بالصغير والتوقير للكبير، فكل خصلة حميدةٍ حببها الله للإنسان، وجعلها أصلاً ثابتاً فيه، وَوصْفاً فطريّاً جبله عليه، وهو معنى قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، حتى أن الناس يعدون نقيضها عيباً ونقصاً.
وإنما جعل اللهُ طبيعة النفس الإنسانية قائمةً على هذه الخصال، ليحصل السكون إليها والاطمئنان بها، فيَسهل على الناس العمل بها وتطبيقها، فتستقيم حال المجتمعات.
فجعلتْ الشريعةُ أحكامَها وتشريعاتها متوافقةً مع الفطرة التي فُطِر الناسُ عليها، ولَمْ تجعلها انعكاساً لدواعي شهوات النفس ونزواتها، حتى لا تُفضي إلى فسادٍ أخلاقي أو اجتماعي أو اقتصادي أو جنائي، وهذا معنى قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}، قال سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه).
لقد مارس الصحابة الكرام حياتهم استناداً إلى وضوح رؤيتهم لحقيقة الإسلام، فانقادوا للتعاليم الإسلامية، وأخضعوا مشاعرهم النفسانية للحق الذي أمرهم الله به، وانجذبت قلوبهم لذلك، فصارت مشاعرهم خادمةً لما دلَّ عليه الحق، مستأْنِسةً به، لا لما تَنْزِعُ إليه أهواء النفوس مما لا يحلُّ لها، ولا يوافق فطرتها، فإدراكهم لهذه الحقيقة جعلهم يمارسون سلوكهم الفطري طواعيةً، وهم في غاية السعادة، فلا يرون في الأحكام الشرعية إرثاً أو عادات قديمة بالية، وإنما هي التزام بأوامر الذي خلقهم في أحسن تقويم، فيرونها عنوانَ رُقيٍّ في الأمم، تجعلهم شامَةً في الناس.
أرأيت ذلك الطالب الذي أنهى مرحلةً وانتقل لأخرى، مثل أن ينتقل من المرحلة الثانوية، ويبدأ الدراسة في الجامعة، إنه عندما يدخل الجامعة، فإنه في بداية دخوله الجامعة، يظنُّ أنه سيجد فيها جملةً من الأنظمة واللوائح والضوابط التي يجب عليه أن يلتزم بها، إنْ في لباسه ومظهره، أو في جلوسه وانضباطه في قاعات المحاضرات، وفي جميع مرافق الجامعة، بل حتى في مشيته، فتجده في بداية العام ينضبط بهذه التعليمات غير متأفِّفٍ ولا ضَجِر، بل إنه يجد سعادته وأُنْسَه في الالتزام بهذه التعليمات بدقة، والظهور بمظهر المتآلف معها، المعتاد والمطاوِعَ لها، فهي وإن كانت قيوداً والتزاماتٍ، غير أنه لا يجد فيها قيداً على سلوكه، ولا أعمالاً شاقة، ولا حيلولةً دون حرِّيته ورغباته، وإنما يرى أنه بالتزامه بها قد مارس ما يهواه، وظهر بمظهر الرجل الذي اكتمل في عقله ووعيه، ففيها يجد رفاهيتَه، وبها يُحقق رغباته، ومثله الفتاةُ الجامعية، فيعيش الواحد منهم صفاءً في النفس وراحةً في البال، وكأنه قد حصَّل الشَّهْدَ بالزُّبْد، وربما سمَّى هذا الالتزام بشروط النظام الجامعي وقيوده: «إتيكيت».
والملاحظ أن هذه الممارسة الممتعة إنما تستمرُّ ما دام في جامعةٍ تعطي الطالب حقَّه وتنصفُه، وتُرضي طموحَه وعصاميَّتَه، إنَّ هذا الطالبَ بانضباطه في هذا النوع من الجامعات، يجد نفسه في حديقة غنَّاء، فتصير له مصدراً للسعادة، ودافعاً للعطاء والإبداع.
إن أخطر ما يحدق بشبابنا وفتياتنا من مخاطر، هو أن يجهلوا حقيقة دين الله، فيظن الشاب أن هذا الدين تكاليفٌ وأعمالٌ شاقة، وتظن الفتاة أن التزامها بآداب هذا الدين قيدٌ عليها، وأن السعادة تكمن في كسر هذا القيد، والانعتاق منه، والتخفُّف من هذه التعاليم، وهذه غفلةٌ كبيرة، تودي بها إلى اضطراب في الشخصية، فإذا كان عقلها يدرك الصواب من الخطأ، فإنّ القلب إذا أُخِذَ بهذه المغريات، صار منجذباً لهذه المُتَع الظاهرة، وأسيراً لها، فيَهِيْمُ بالملهيات هيامَ مجنون بني عامر، بليلى بنت سعد، حين أَخذه والدُه إلى مكة، وقال له: تعلق بأستار الكعبة، واسأل الله أن يعافيك مِن حب ليلى، فتعلق بأستار الكعبة وقال: (اللهم زدني بليلى حبّاً، وبها جنوناً، ولا تُنسني ذكرَها أبداً) قالوا: فكان يهيم في البرِّيَّة، لا ينضبط له تصرُّف.
إن الشأن فيمن نأى بنفسه عن التَّدبُّر والتفكُّر في حقيقة هذه الحياة، أن يرى في الحياة صحراءَ قاحلة، فيتلمَّس سبيلاً للسعادة، فلا يأخذ من حضارات الشرق والغرب إلا ما سَهُلَ، مما تشتهيه النفس من الملهيات والمغريات التي يُغطِّي بها همومه وأنَّاته، ويَعمى عما تدعو إليه الفطرةُ الإنسانية، فهو لا يرى عوامل النهضة عند الآخرين، على أنها ضالَّةٌ منشودة، لأن قلبه منجذبٌ لما عند الآخرين من صور اللهو واللعب، فيرى في الملهيات مصدر سعادته ورفاهيته، وهذا هو تفسير ما عليه كثير مما يسمَّى بالدول النامية، أنها لَحِقتْ الدول الصناعية في مظاهر الرفاهية والتَّرف، وربما سبقتها في ذلك، غير أنها تخلَّفت عن الركب في البناء والتعمير.
إن الشأن في هذه الغفلة أنها قد تجعل الشاب والفتاة، يعيشون اضطرابًا عقليًا وانفصامًا في الشخصية، يحول دون القدرة على التفكير برؤية واضحة، فيعجز أحدهم عن ضبط مشاعره والتحكّم فيها، وعن السير في الحياة بسلوك سليم، وعن العطاء والإبداع، فقد يستبد به القلق والكآبة، وتعميه الحيرة، فيعيش حياةً بئيسةً، من حيث يظن أنه يسير في الطريق الصحيح، وأين هذا من شابٍّ، أو فتاةٍ أدركت حقيقة الحياة، فتعيش سعادةً في حياتها، وهي على يقين أنها تُفضي بها إلى سعادةٍ في أُخراها، فصار ليلُ وجودِها مشرقاً ومضيئاً بشهود الحقيقة الساطعة، وشعارها: إذا كان في الناس مَن يعيش في سَدَفِ الظلام، فنحن في ضوء النهارِ.
** **
- عضو هيئة كبار العلماء سابقًا وأستاذ تعليم عالٍ