«لا تهمني اللغة في ذاتها وإنما في كونها نافذة للعقل البشري»..
سمعت هذه الجملة أكثر من مرة عند ستيفن آرثر بينكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، ودائما ما يثير اهتمامي هذا التعاطي مع اللغة بشكل مختلف، تشومسكي كذلك يقول: «تحدد اللغة ما يعنيه أن تكون إنسانا، ودراسة اللغة وسيلة لدراسة العقل البشري»، بمعنى أنه إذا كان تحليل الدم يخبرنا عن طبيعة جسم الإنسان؛ فإن تحليل اللغة يخبرنا عن طبيعة دماغه وطريقة عمله.
وقد تنبه العلماء لتعاطي الدماغ مع اللغة بشكل لافت، وتوصلوا في حقلي اللغويات الأحيائية واللغويات العصبية لعدة حقائق مدهشة بهذا الخصوص، فيرنانديز وهيلين سميث في كتابهما أسس اللسانيات النفسية (الذي حظي أخيرًا بترجمة رشيقة من الدكتور عقيل الزماي ) أفردوا فيه فصلا كاملًا غنيًا وثريًا بالمراجع والدراسات المحكمة سمَّوه «الأساس الأحيائي للغة»، ذكروا فيه حقيقة أن اللغة مظهر أحيائي للبشر «biological aspect» مثلها مثل وقفة الإنسان المنتصبة مثلًا واختلافها عن بقية الحيوانات الأخرى.
قبل أربعة عقود تقريبا وضع عالم الأعصاب إريك لينبيرغ خمسة ضوابط رصينة ومجربة في عدة مجالات وحقول معرفية مختلفة؛ دور هذه الضوابط هي أنها تخبرنا هل النظام أو الظاهرة التي ندرسها مظهرٌ أحيائيٌ خاصٌ بالنوع أم شيءٌ مكتسبٌ من العالم الخارجي، طبق علماء اللغويات هذه الضوابط الخمسة على لغة البشر وأثبتت أنها مظهر أحيائي بالفعل.
الضابط الأول: اللغة محصورة في النوع؛ أي أن لغتنا خاصة بنا ولا نتشاركها مع كائنات أخرى، بمعنى أن لدينا استعدادا جينيا مسبقا لاكتسابها، كما أن كل الجهود العلمية في تعليم الحيوانات لغة البشر باءت بالفشل ولم تتجاوز كونها لغة تشبه لغة الآلة مبنيةً على مثير واستجابة وغير قادرة على الابتكار، بل حتى القردة العليا والشمبانزي الأذكى واشو الذي تعلم مئة كلمة فشل في تركيب جمل صحيحة لغويًا.
الضابط الثاني: اللغة كلية لدى البشر؛ ضوابط لينبيرغ تقول حتى تحكم على المظهر أنه أحيائي لابد أن يكون كليًا لدى جميع أفراد النوع، ولو تأملنا لوجدنا أن كل لغات البشر قائمة على مفردات وأفعال وجمل ومعجم وصرف ونحو وأزمنة للأفعال وجمع ومفرد، كما أنها ليست خاصة بمجموعة أو قبيلة من البشر.
الضابط الثالث: اللغة ليست بحاجة للتعليم ولا يمكن كبتها؛ حسب ضوابط لينبيرغ حتى نحكم على المظهر أنه أحيائي لابد أن يكون نموه طبيعيًا من غير حاجة لتدخل أو تعليم، وهنا نلحظ بشكل واضح أن الطفل يكتسب اللغة من والديه بشكل تلقائي من غير حاجة للتعليم المباشر مثلها مثل الضحك والبكاء والوقوف والمشي سيحصل بتعليم ومن غير تعليم ولا يمكن كبته.
الضابط الرابع: الأطفال في كل مكان يكتسبون اللغة تبعا لجدول متشابه في النمو؛ هذا الضابط مثير للدهشة ومشاهد فيما خلصت له الكثير من الدراسات العلمية، فكما أن الطفل الطبيعي يتقلب ثم يحبو ثم يقف ثم يمشي... هكذا هو النمو اللغوي للبشر كذلك بغض النظر عن اللغة فرنسية كانت أو اندونيسية، الباحث سلوبان قضى حياته البحثية كلها في دراسة مراحل الاكتساب اللغوي عند الأطفال خلص فيها إلى نتيجة مذهلة وكانت عنوانًا لمقالته الشهيرة عام 7219م «الأطفال واللغة: إنهم يتعلمون بشكل متماثل في جميع أنحاء العالم»، فتجدهم مثلًا يناغون في منتصف سنتهم الأولى ثم تبدأ ما تُسمى بالبأبأة، ثم الكلمة الأولى مطلع السنة الثانية ثم الجملة الأولى وهكذا، ولا توجد لغة يحقق أبناؤها النضج اللغوي بعد أربعة أشهر من ولادتهم أو لغة أخرى يأخذ اكتساب الأصوات فيها خمس سنوات، بل جميعنا نتشابه في نمونا اللغوي وإن اختلفت لغاتنا بمظهرها السطحي الخارجي.
الضابط الخامس والأخير: النمو اللغوي ينقدح بواسطة المحيط؛ أي أنه لابد من تحفيز وبيئة يتوفر فيها التفاعل فلا يمكن للطفل أن يكتسب لغة من غير أن يتعرض لها، ولهذا السبب نجد الطفل الصيني يتكلم الصينية والطفل الروسي يتكلم الروسية ولو بُدلت عوائلهم وعاش الصيني الصغير عند عائلة روسية لاكتسب الروسية مثل أهلها.
اكتساب الطفل للغة جعل داروين في كتابه The Descent of Man يقف مدهوشًا أمام قدرة الإنسان اللغوية حتى وصفها بالميل الغريزي، وذهب بعض العلماء لأبعد من ذلك حتى قالوا ان اللغة هي سبب تفوق الكائن البشري على سائر المخلوقات فوصفوه بالحيوان الناطق.
** **
د. بندر الغميز - استاذ اللغويات التطبيقية المساعد - جامعة الملك سعود