عُرف الشيخ -رحمه الله تعالى - بدقته الشديدة، وقوته في الحق، ونأيه عن المجاملة التي تفضي إلى الكذب، وتحريه للصدق والعدل، وهذه صفات تجلل صاحبها بالهيبة، وقد تستر جانب اللطف والعطف، والرحمة والمحبة، وهي صفات متأصلة فيه، وإن خفيت على بادي الرأي، ضعيف النظر، وقد أدركها الفتى أيما إدراك، فكان يجد في مراجعاته له هذا الدفء، ويلمس تلك المشاعر، ولا سيما وقد كان يطلعه على ما يستجد من أموره، ويستشيره فيما يعزم عليه مما يستقبله، كالإمامة في المسجد، والتخصص في الجامعة، والتعامل مع ما يرده في دراسته وعمله، بل كان يستشيره فيما هو أخص ...، فقد كان والده على ما كان من رأي وقوة، وهيبة لا تخفى، يدفعه إلى مشاورة الشيخ، وكان الشيخ يسأله قبل أن يبدي رأيه عن رأي والده، فما شعر الفتى يومًا بازدواج أو اضطراب، ولا تشتت بين الرأيين، أو تردد بين طريقين.
ومما يذكر من مواقف حرص الشيخ عليه ولطفه به، أن سأله الفتى يومًا فأجابه، وكان لقرب منزله يصادفه في اليوم أكثر من مرة، وقت الخروج إلى الصلاة، أو العودة منها، فلما رآه ذلك اليوم الذي سأله فيه، أو اليوم الذي يليه، أقبل الشيخ إليه وقال: لا يكن عندك شك، اطمئن، الأمر هو ما قلت لك ... يقوله عطفًا على سؤال أمس! خشية من أن يكون قد بقي في نفسه شيء، فيظل حائرًا غير مطمئن!
لم يكن يستثني الفتى شيئًا في مشاركة شيخه، حتى (أشياءه الصغيرة)، وسجالاته ومعاركه العلمية في المدرسة، ألقى يومًا في الإذاعة المدرسية، في مدرسته المتوسطة قصيدة يمدح فيها أحد أساتذته، وكان فيها: (إلا بفضلك يا من ذمه كذبُ) فانتقده مدرس آخر، كان يحضر دروس الشيخ، وقال: لا بد أن تقول: إلا بفضل الله ثم فضلك، فانطلق الفتى عصرًا إلى الشيخ، ومعه القصيدة، وعرض البيت عليه والمدرس المنتقد حاضر، فقال الشيخ: لا بأس، هذا فيما يقدر عليه المخلوق، ثم ابتسم وقال: أعذبه أكذبه! ثم لما أرادا الانصراف، قال: إن شئت قل: إلا بجهدك، ثم أخرج الشيخ قلمه وعدلها.
وقد تولى الفتى إمامة مسجد الحي الذي يجمعه وشيخه، وهو في آخر المرحلة الثانوية، وكان يلبس (المشلح) إذا أم الناس، وإذا صلى الجمعة، وكان هذا موضع انتقاد كثير ممن حوله، يقولون: تزببتَ وأنت حصرم، وهو لا يلقي لهم بالاً، فإضافة إلى قناعته الراسخة، فقد كان له مستمسك في إذن والده له، وإقرار شيخه إذ يراه في هذا اللباس فلا ينهاه، وممن كان ينتقده نفرٌ من زملائه، ممن يحضرون دروس الشيخ، وربما كان له معهم في هذا سجال، وفي ذات يوم، جاءه أحدهم، وفرحة النصر تبرق في عينيه، يقول: إن الشيخ قال في الدرس وهو يشرح كتاب (حلية طالب العلم): إن طالب العلم لا ينبغي أن يقلّد العلماء في ملبسه وهيئته... هكذا نقل عن الشيخ، وأردف بموعظة وحث على التزام هذا الأدب، ليترك ما اعتاده من التشبه بالعلماء ولما يبلغ مبلغهم، فما كان من الفتى إلا أن نقل إلى الشيخ الحوار الذي دار بينه وبين زميله، مسترشدًا سائلاً عن انطباق ذلك على حاله في لُبسه المشلح، فأجابه بالحرف الواحد: «لا، بل هو من الزينة للصلاة، وأنت –إن شاء الله- من العلماء» لم يكن الجواب فقهًا خالصًا، لقد كانت إجابة تربوية نفسية، تعزز الثقة، وتبعث الهمة، إنها الفقه الحقيقي، الذي يراعي الحال، ويتصور المآل.
وعلى ذكر هذا الدرس، فقد شرح الشيخ (حلية طالب العلم)، والمؤلف من معاصريه، وهو أصغر منه سنًّا، ودونه ذكرًا، غير أن غاية الشيخ في نفع الطلاب والنصح لهم أسمى من أن يحول دونها حجاب المعاصرة، أو وسوسة حظ النفس.
لقد كان الشيخ دقيقًا في الفتوى أشد ما تكون الدقة، يختار العبارة المناسبة المتوافقة مع مصلحة السائل، وربما استعمل أسلوب الحكيم ليتحاشى الخطأ في الفهم، والتشدد أو التوسع، وكم سأله الفتى عن شيء فيقول له: أنت لا تفعل هذا، أو يقول: كن مثلي في هذا، ولا يفتيه الفتوى المجردة، سأله يومًا: هل يجوز أن أنيب في الإمامة دون حاجة ملحة، فقال: أنا لم أفعل هذا، ولم أترك الإمامة إلا لضرورة أو حاجة ملحة، كن مثلي. ولا شك أن هذا توجيه وليس بفتوى.
لما أنهى الفتى المرحلة الجامعية وكان قد حدد مساره مبكرًا، وأخبر الشيخ بما ينوي، وأطلعه على خطواته في تطبيق خطته، صار الشيخ يسأله كل حين: ألم يتسهل الأمر؟ ألم تلتحق بعد بالوظيفة؟ ثم لما طال الانتظار بدأ الشيخ يسأل عن موضوعه في الجامعة، حتى إذا جاءه خبر التعيين فور صدوره، ضحى يوم السبت 8 من ربيع الأول عام 1421هـ أرسل زوجته (أم عبد الله) لتبشر والدة الفتى (رحمها الله).. لقد كان موقفًا أبويًّا دافئًا، متدفقًا بمعاني المودة والمحبة، ممثلاً العلاقات الراقية، من طيب الجوار، والحرص على إدخال السرور، والسماحة والتواضع.
وإذا كان من مقتضى الأبوة العطف، فإن من العطف والرحمة الزجر عن الخطأ، والمعاتبة على التقصير، ولم يكن الشيخ يسكت عن الخطأ إذا رآه، التقى الشيخ والفتى بُعيد أذان المغرب يومًا، وهما خارجان إلى الصلاة، كلٌّ إلى مسجده، وكلاهما متأخران، يحثان الخطى، وكان الشارع الضيق الذي يمران فيه قد سُد بسيارتين على جانبيه، إحداهما سيارة الفتى، فلا يمكن مرور سيارة بينهما، فقال الشيخ للفتى: لمن هذه السيارة (وهو يعرفها)؟ قال: سيارتي، قال: أبعدها عن الطريق، فقال: يا شيخ هو الذي وقف خطأ، قال: أبعدها، أنا الآن آمرك أمرًا، وقد أخطأ الفتى في عدم إبعادها من أول الأمر، وأخطأ في مراجعة الشيخ؛ فإن الضرر يجب أن يزال فورًا ثم ينظر فيما بعد ذلك.
رحم الله والدينا وشيخنا وجمعنا في جنات النعيم.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم