أتخيَّلني الآن في احتفال (يوم الأب)، احتفالٌ أعدَّتهُ لجنةُ الأنشطة ووقع الاختيارُ عليَّ لإلقاء خِطابٍ عن الأب، ولأنََّ (كُل فتاةٍ بأبيها معجبة) فقد وقفت على منصة الحفل وتحدثتُ عن والدي: أبي، وما عساي أقول! منذُ الوعي الأوَّل وما قبلَهُ أيضاً، كان ولا يزال تجسيداً حياً وحقيقياً جدًا لمعاني الأبوة. عشنا بين ذِراعيه حقاً، كبُرنا ولا يزال يحتضننا بِذات الحنان، ومهما تملَّصنا من الجلوسِ في حِجره يقول: «ما تكبرون على أبوكم».
نعم لا نكبُرُ أبداً، في كُلِ مرةٍ أزورهُ، أُبقي سنوات نُضجي خارجاً وأدخُل البيت طفلة أُسابِقُ أطفالي، طفلة اعتادت وإخوتَها التسابُقَ للسلامِ عليه كُل يوم في تمامِ الساعةِ الرابعة عصرًا عند عودته من عمله. تومِضُ الكثيرُ من الصورِ في مُخيلتي؛ أراه في اضطجاعته المُعتادةِ في غُرفةِ المعيشة، أمامهُ شاشةُ التلفاز تستفرِغُ أخبار العالم، والقلم: الإصبع السّادس في يده يسقي به الأوراق المتناثرة أمامه كأنها حقلُ ياسمين، كوب الشاي الساخن راسِخٌ هُنا كبئر قديمة، ونِداءاتُهُ المميزةُ لنا بما لم يُنادِنا به أحدٌ قبلهُ ولا بعده: «سيدة زينب» و«سيدة رباب».
كُنا مثارَ غِبطةٍ بين أقراننا. فرحةٌ تُشبِهُ العيد تسكُننا عندما كان يأخذنا إلى «ملاهي الحكير في مدينة المبرز في الأحساء» نلعبُ هنا وهُناك، نكتُبُ قصيدةً من فرحٍ بِخطواتنا بينما يخُطُها هو بإصبعه السادس على ظهر علبةِ المناديل. تكتمِلُ قصائِدُنا فنتوجهُ إلى مطعم «الأرنب الجائع» تحمِلُنا أحاديثُ الطريق نسرُدُ له بِحماس ما فعلناه وما لعِبناه، كانت رحلةَ الطفولةِ الجميلةَ تلك تتكرر بين الحين والآخر كلما سنحت الفرصة بين أمسيتين أو احتفالين.
والدي الحنون، طيب القلب، زرع بِداخِلِنا الإنسانية وحُب الخير - وأتمنى أن تُثمر- لا بتوجيهاتٍ وتعليمات، وإنما بمواقف وأفعالٍ عفويةٍ تصدُرُ مِنهُ دون تخطيطٍ أو نِيةٍ مُسبقة.
ذات ضحى قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا، بينما كنّا في إحدى الجلسات تحفُّنا الضحِكات والأحاديثُ الودودة، عبرتْ أمامنا (جواي..العاملة المنزلية)، لم يكُن عبورًا مُلفِتاً أبداً بالنسبةِ لنا، لكن المُلفِت حقاً أنه استوقفها ومدَّ لها هاتِفه قائلاً: «تعالي كلِّمي أهلك»
بالرُغمِ من أنها تملِكُ هاتفاً خاصاً لكنه أراد لها أن تشارِك في تذوقِ طعم السعادةِ التي كان يتلذذ بها بين أبنائه في تلك اللحظة. مرت السنون وكبُرتُ أنا، ولمَّا كان الجميع ينتظِرُ مني الرد بالموافقةِ أو الرفض قُلت: أبغى واحد نفس أبوي! لِتَرُدّ عمتي بيقينِ: أبوك ما في مثله.
صَدقت عمتي.. ومن كأبي؟! وكَبُرتُ حقاً يومَ زواجي حين قال لي:
أَزِفُّها ودموعُ القلبِ تنسفحُ
أهكذا يَتَآخَى الحزنُ والفَرَحُ!
أهكذا يا ابنتي ننمو، ويشطرُنا
نُضْجٌ فيَرحَلُ عن أعذاقِهِ، البَلَحُ!
ومضاتٌ كثيرةٌ تلمعُ في رأسي، أبي في كُل الزوايا وكل الحنايا أدامه الله لنا أمانًا وحنانًا.
دُمتُم بخير.. مُحدِثتُكم زينب الصحيح.
.. وهُنا يتكرر المشهد المُعتاد للمرة اللا أدري! صوتٌ يخرُجُ من بين الحضور متعجباً: «الصحيح! يقرب لك الشاعر جاسم الصحيح؟...
إنه والدي الذي حدثتُكم عنه
وصار لِزاماً أن أُعيد خطابي..
... ... ...
زينب الصحيح - (ابنة الأديب الشاعر جاسم الصحيح)
* * *
سيرة الأديب الشاعر: جاسم الصحيح
- عضو بنادي الأحساء الأدبي.
- تمت الترجمة للشاعر في: معجم البابطين للشعراء العرب، أنطولوجيا الأدب السعودي، الموسوعة الكبرى للشعراء العرب.
* أهمّ الجوائز:
- البابطين عن أفضل ديوان عربي (ما وراء حنجرة المغنِّي).
- الثبيتي عن أفضل ديوان عربي (كي لا يميلَ الكوكب).
- وزارة الثقافة في السعودية عام 2016 عن الأعمال الشعرية.
- شاعر عكاظ عام 2018.
- السنوسي عن ديوان (قريبٌ من البحر بعيدٌ عن الزرقة).
* من إصداراته:
- ظِلِّي خليفتي عليكم
- رقصةٌ عرفانيَّة
- نحيب الأبجدية
- قريبٌ من البحر بعيدٌ عن الزُّرقة