هل التفكير «صفة» تميز إنساناً عن آخر؟... بالطبع لا، فالتفكير موجود لدى كل الناس وفي كل الأوقات ما عدا وقت النوم! إذاً لماذا تقدم بعض الفضائيات ضيوفها على أنهم «مُفَكّرون»؟ وهل المعنى المقصود هو «التفكير» فقط أم هناك معاني أخرى تحملها كلمة مفكر؟
لكل فضائية توجه عام، وتحاول أن تنسق برامجها لخدمة هذا التوجه العام. ولذلك عندما تكون «الحقيقة» تجافي التوجه العام، تحاول القناة ستر عورتها بـ«المفكر»، الذي يلوك «الحقيقة» ويقدمها بما يتناسب وذلك التوجه العام! ولا أقصد هنا كل الفضائيات، بل معظمها.
بهذا الأسلوب تمنح الفضائيات للمفكرين حقاً يفوق حق مالك في الفتوى؛ وحق أينشتين في الفيزياء؛ وحق المتنبي بالشعر؛ وحق كل المهندسين والأطباء والاقتصاديين والفنانين ووو.. الخ؛ حتى لو لم يكن «المفكر الميممون» حاملاً لشهادة عليا!... والهدف من هذا التزييف الإعلامي هو تشويش أو طمس الحقيقة. ولذلك قال لي أحد الأصدقاء مازحاً ذات مرّة: قل لي أي فضائية تتابع؟ أقول لك من أنت!
للأسف أصبح المزاح حقيقة! ويبقى للمتابع حق الاختيار، فهو ليس مجبراً على متابعة قنوات بعينها. ولكن في حالة الأجهزة الذكية، لا يوجد للمتابع حق الاختيار! فالحقيقة الملفوفة بآلاف الأكاذيب والإشاعات المغرضة، تأتيك عبر العشرات من الأقارب والأصدفاء المقربين. وهؤلاء ليس لهم ذنب، فهم ينقلون المعلومة كما وردت لهم! ولا أحد يعرف المصدر الأول ومقدار مصداقيته. ثم يأتيك عبر الفضائيات «مفكراً ما» ويصدر فتواه «الحرة»، مؤكداً أو نافياً لتلك المعلومة ليوهمك بأنه يزيل عنك التشويش!
لقد حلت الأجهزة الذكية والشبكة العنكبوتية «الإنترنت» محل المكتبة والمدرس والأديب والفنان والسينما والمسرح...الخ. وهذا بالتأكيد هو تقدم! ولكنه يتيح لمن يصطاد ببحر الأكاذيب المتلاطم من «المفكرين الجدد»، الفرصة لتشويش الوعي وشله إن أمكن! ولا توجد وسيلة للنجاة من الغرق في بحر الأكاذيب ذاك، سوى سفينة «الوعي المستقل»! أي أن يتقصى الفرد الحقيقة بذاته، دون أن يكون «إمعة» لهذا المفكر أو ذاك!
والأنكى من ذلك كله؛ عمدت بعض الفضائيات والوسائل الإعلامية الأخرى؛ لاستخدام الأسماء اللامعة كـ «مفكرين». فيستضيفون شخصاً كعادل إمام مثلاً؛ وتحتل المسألة الفنية جزءاً يسيراً من الحديث؛ ثم تدخل الأسئلة الكبرى من حيث يعلم أو لا يعلم؛ والتي ليست من اختصاصه؛ ثم تجير فيما بعد لصالح المسار الإعلامي الذي تنتهجه تلك القناة!
وللأمانة لا أقصد الفنان الراقي عادل إمام بشخصه؛ فهو يرفض استضافات إعلامية من هذا النوع؛ وقد ذكر ذلك أكثر من مرّة! ولكن أقصد أن يُسأل شاعر مثلاً عن «فيروس كورونا»، أو يسأل مهندس عن رأيه بـ«الحرب الدبلوماسية»، أو يسأل طباخ «لامع» عن رأيه بسباق التسلح! ...الخ. تعدد «المفكرون» والرأس واحد.
** **
- د.عادل العلي