قليل من الشعب العربي من يعرف عبدالرحيم محمود الذي ألقى بروحه على راحته في مهاوي الردى قالها وفعل فيما بعد وذهب شهيداً وقرَّ منه ما يسعف ذاكرتنا لتبقيه بيننا ثم ذكر الحياةب أنها تسر الصديق واستثنى في الموت غيظ العِدا غير أنه يغيظ حتى الصديق وإن كان في هذاالموطن،
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الرّدى
فإما حياةٌ تسرُ الصديقَ
وإما مماتٌ.. يغيظُ العِدا!
ربما نذكر تلك الإطلالة الحماسية التي دعتنا يوماً ما وصاحبها نداء الجهاد على قلة الرجال وضعف العتاد من أجل استعادة جزء بسيط أُخذ قسراً من أرض فلسطين في الأربعينيات الميلادية أو قبل ذلك بقليل فأتتهم الوفود من كل حدب وصوب من البلاد العربية في جهاد حقيقي بقلب قد باع جسده مع روحه لفلسطين وليس دراما تراجيدية تذرف دموع التماسيح وتشتري وتبيع في القدس كما يحلو لها عند البعض بعد ذلك، تلك القصيدة التي كان ينشدها الطلاب وهم في مراتع الصبا فتضحى القدس من نشوة الحماس عنهم على مرمى حجر تتراءى لهم القبة المذهبة وكأنها تمد الأيادي بابتسامة الرضا فكيف بنا الآن وقد أخذت المسافة الزمنية ما بين الأمس واليوم كل مأخذ فكافأت الأسرائيليين على التخاذل بابتلاع فلسطين كلها وفوق ذلك كضريبة الضَعف التي مُنينا بها.
لا يستطيع العربي أن يحمل روحه على راحته الآن من أجل ذلك لأنها أصبحت ثقيلة على فلسطين، حيث إنها جاوزت مهاوي الردى وذلك بعد أن كانت الثقة تحملهم على سهولة رمي الإسرائيليين في البحر آنذاك عندما يتناولون الأرجيلة وهم يقهقهون على كراسي المقاهي الشعبية في أحياء القاهرة ودمشق وبغداد، أصبحنا نبتغي فتاتاً من الأرض في اجتماعات القمم فلا يكون لنا ذلك، أدار الزمن بوصلته فتغيّرت السسيولوجيا العربية عامة والفلسطينية خاصة والتي بموجبها تغيّرت صورة المقاوم بكل فسيولوجيته المعقّدة فليس ذلك الرجل صاحب العينين الغائرتين والشرر منهما يكاد يبتلع العدو الذي لو ترك له لدق عظمه قبل أن ينهش لحمه حميّة للقدس وأهلها فلم يعد لدينا الفلسطيني الأخير صاحب الكوفية والعقال متخدد اللحم من قلة الراحة
والتفكير من أجل قضيّته حين غادر متدثراً عباءة الموتى بعد أن توارثوا ذلك اللقب شاعراً عن شاعر منذ الاحتلال الإنجليزي اللعين حتى مطلع الألفية الثالثة ولا ندري هل نتجاوزها حتى يخلو الحلوتس اليهودي من السلاح أم يظل كالكابوي الأمريكي الذي يرتعد الهندي الأحمر حين يرى صورته، حمل الكثير من شعراء الحقبة الاستعمارية أرواحهم على راحتهم حتى ترجلوا داخل قبورهم وقد طمسها قتام الزمن ولكن بقيت كلماتهم صدى في قلوب العرب قبل آذانهم حين ترى من عجز أن يحمل روحه على راحته عندما ولّى الفلسطيني الأخير وذهب في مدارج الآخرة وقد بكى أرضه وناسها دون أن يجد صدى لكلماته في قلوب الساسة بعد أن تناحروا على قصعة من الغنيمة فافترقوا كل فرق كالطود العظيم بكوا حتى جفّت مآقيهم فاسعدتهم دموع إخوانهم الكنعانيين الدراويش فكانوا لهم رموزاً في محطة الذاكرة يحملون لقب الفلسطيني الأخير من إبراهيم وفدوى طوقان وعبدالرحيم محمود مروراً بعبدالكريم حسين وراشد حسين حتى سميح القاسم وقبله محمود درويش الذي ترك الحصان وحيداً وانصرف عنه إلى الأبد فرأى شبحاً قادماً كأنه هو من بعيد فأخذ يهذي كخطرات نفس آلمه البعد فتذكر أن لديه ذاكرة للنسيان علّه يستخدمها لتقيه حر الوجدان والحسرة على واقع مر يراه رأي العين، حيث ينسى ألم الاستعمار والحرب حتى وهو في بطن أمه لا يريد أن يتذكر أنها في مخاض ولا يريد حتى أن يحلم أنه في طور الولادة.
** **
- أحمد بن حمد السبيت