هدى مستور
قال الله تعالى: {واتْل عليْهمْ نبأ ابْنيْ آدم بالْحقّ إذْ قرّبا قرْباناً فتقبّل منْ أحدهما ولمْ يتقبّلْ منْ الآخر قال لأقْتلنّك قال إنّما يتقبّل اللّه منْ الْمتّقين، لئنْ بسطت إليّ يدك لتقْتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليْك لأقْتلك إنّي أخاف اللّه ربّ الْعالمين، إنّي أريد أنْ تبوء بإثْمي وإثْمك فتكون منْ أصْحاب النّار وذلك جزاء الظّالمين. فطوّعتْ له نفْسه قتْل أخيه فقتله فأصْبح منْ الْخاسرين. فبعث اللّه غراباً يبْحث في الأرْض ليريه كيْف يواري سوْأة أخيه قال يا ويْلتا أعجزْت أنْ أكون مثْل هذا الْغراب فأواري سوْأة أخي فأصْبح منْ النّادمين} المائدة.
نتلقى القصة ونقف عند حدود ما جاء في النص الثابت المحفوظ.
تعود بنا الآيات، إلى زمن سحيق وموغل في القدم، إلى أول تجربة بشرية ما سُجلت في كافة الكتب المقدسة، إلا لكونها، ذات شأن، حدثت بعدما كون آدم وزوجه أسرة بعد خروجهما من الجنة وهبوطهما إلى كوكب الأرض. أشقاء من بني آدم، تحرك في نفس أحدهما «قابيل» نوازع نارية، ظاهرها الحسد وباطنها الخوف من فوات حظ، فاستجابت نفسه، لدوافع الشر، ونازع شقيقه في نصيبه وحقه، مهدداً إياه بالإكراه والاعتداء على حقه الطبيعي في الحياة، في حين أن «هابيل» حافظ على رباطة جأشه، واتزان موقفه، حين صان أعظم قيمة وجودية وهي «حق الحياة» بدافع من خشية الله وتعظيمه. وأمام وطأة الشعور بالخيبة والخسارة، أصبح قابيل يتخبط في ندمه، وقد أسقط في يده حين لم يجد ملاذاً لإخفاء جريمته المتمثلة في جسد أخيه المسجى، شاءت الإرادة الإلهية أن يلقنه وسلالته من بعده دروساً بليغة لا يعقلها كل أحد، بداية بعدم العثور على طريقة ناجعة، لإخفاء معالم الجريمة النكراء، ومواراة المادة الطينية، بعدما فارقتها طاقة الحياة، إذ يرسل الله مُعلماً على هيئة طائرِ ملهم، ليتحول شعور الحسد المرير، إلى شعور قارص بندم يفوق مرارة، بعد أن أدرك ضآلة قدره، ومغبة عاقبته.
اللافت أن أول جريمة وقعت على كوكب الأرض، لم تكن بين حزبين متنافرين أو قبيلتين متنافستين، بل كانت بين أشقاء، يجمعهم الأصل والمنبت والغريزة والفطرة، الأمر الذي يجعل التعويل على روابط القربى ووشائج النسب وجذور القبيلة، أمراً مربكاً وغير مجدي في كل الأحوال.
وباعتبار أن قرابين البشر تتفاوت في موازين الرب؛ فالله يعلم السر وأخفى، وإنما يتقبل الله من المتقين، ولأن جذبة الأرض لا تجتمع مع لمعة السماء، وثقل الطين، لا ينسجم مع خفة الروح، هذا كله وغيره، قد يحول حبل التواصل إلى مدِية للتقاطع، والعلاقة إلى معركة، والحوار إلى صراع.
إن الغاية التي لأجلها بدأ تاريخ الصراع البشري، هي في حقيقتها مجرد مبدأ وحشي، وهدف بدائي، ومحض عبث وزيف وادعاء. إذ أن هذه التجربة، تلقننا درساً لاذعاً في أنه ليست كل المعارك التي يخوضها الإنسان مجدية، ما لم تكن بقصد المدافعة، وكف الإيذاء، ومنع الاعتداء. وإلا فإن الإنسان هو من يختار الصراع ويفتعل الحروب ضارباً بالحائط، جميع القيم النبيلة والتعاليم المقدسة.
وأن التاريخ وأن سطره الأقوياء، فإن الحق سيسطع نوره يوماً، إذ منذ ذلك الحين، فقد التصقت جريمة «قابيل» باسمه، كما عد «هابيل» أسطورة إنسانية للنبل والبراءة والنزاهة والثبات والتقوى إلى يوم الدين.
وسلالة الناس من بعده، منهم من اتخذ مسالك -قرباً وبعداً- تحاكي موقف هابيل في جميل سجاياه، وفي تطلعاته الروحية وقيمه الربانية، واختياره السامي (ما أنا بباسط يدي لأقتلك) ومنهم من قارب أو شابه المعتدي «قابيل»، في استجابته لنزعات السوء، وسذاجة تصديقه لتبريرات الشر ومسوغاته.
«هابيل» و»قابيل»، يمثلان قطبين متناقضين يسودان العالم: عالم الحب والبراءة والطهر، وعالم الكراهية والشر والخبث، فسطاط النور والفضيلة وفسطاط الظلام والرذيلة، معسكر الحرية والسمو ومعسكر العبودية، والانحطاط.
وبينهما برزخ قائم، من يقف بين هذين الصفين، هو في حقيقته منحازاً لأحدهما، فمن يرى الغاشم وهو يشهر مطواته ليخترق حياة أخيه، أو ليسلبه حقه، في مال أو منصب أو نحوه، دون أن ينبس بشفة، هو يشارك الجاني في التلطخ ببعض من دنسه، إلا أنه يفترق عنه، في تهوره وحماقته.
وقس على ذلك، ويلحق به، من يستغل الوضع القائم على الصراعات والمقاومة، بين الظالم الباغي والمظلوم المسلوب، متظاهراً بالبطولة الزائفة، ولكن عبر جلد الضحية، واتهامها بالتفريط في حقها، نافضاً عن كاهله أدنى شعور بالتعاطف مع الضحية، ومتخلصاً من مرارة الشعور بتأنيب الضمير.
وفي خضم الصراعات القائمة، والفتن المشتعلة، هناك فريق يجيد فن الاصطياد في الماء العكر؛ باستثمار القضايا الشائكة لصالحه، حين يزايد على الموقف، منتهزاً اختلاط الأمر، وتشابك الخيوط، رامياً لغنيمة باردة، كعلو كعبه وسيادة أمره وخلود ذكره الخ.
ومن ينفي نظريات المؤامرات، ويتهكم بمن يعتقد بها، هو في الحقيقة، ليس حالماً فحسب، بل يشطب على شطر من العالم ويتنكر لجزء من الذات.
إذ من الغرابة، أن هذين العالمين بتناقضاتهما وإن بدا للعيان أنهما لا يتعديان الصورة الخارجية المحسوسة، إلا أنهما في الحقيقة، يجتمعان في أعماق الإنسان نفسه، ولذا فإن عبقرية الإنسان الروحية، ونبوغه العقلي، واتزانه النفسي، حين يصغي لنداء الحب والفضيلة والإيمان بعمقه، هذا كفيل بطرد عتمة الشهوة، وكبرياء الشبهة، ووهم الضحية، وفوق ذلك حفظ التناغم بين الشقين المتصارعين بعمقه.
ويبقى السؤال الوجودي القديم ملحاً وحاضراً، ومن الحكمة طرحه قبل فوات وقته:- متى يكون الإنسان إنساناً؟ وإن لم يكن هابيل خالصاً، فلِم -على الأقل- لا يختار أن يصطف إلى جانبه؟!.