د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ليس مهمًا اسمُه أو وسمُه؛ فالأهمُّ مقولُه ومنقولُه، وحين حكى عمَّا لا يجيده جدَّف بعيدًا فاستهوته حكايات لا رابط بينها فربطها وبنى عليها موقفًا وأعلن توقفاتٍ، وفي زمن الأصابع « القارئة» لم يعد للمعلومة قيمةُ العالِم بصفته المؤصلَ لها ولا المتعلم حيث هو المستفيدُ منها، كما لا إيقاعَ لمن يحاول تفكيك محتوياتها أو احتواء مُفكَّكِها، ولا وقعَ لمختصي «الجرح والتعديل» كي يضعوا الناقلَ والنقل في موقعيهما الحقيقَين بهما كما صنع علماء الحديث في الرواة والمرويات.
** المفارقة هنا هو أن زمنَ الصورة لا يعتمد الصورة، ولا حتى ظلالها، فلا تتوثّق برسم ولا تُدقق بإطار، ولو اعتُمدت في التناقل لأقلَّ كثيرٌ من انتشارهم ولاستقلَّت الفكرة من قيود مرتهنيها، وستُرفض الادعاءات دون إثبات، وسيتراجع الافتئات، وإذْ لم يكن المحدثون ومعهم المؤرِّخون بمستوى ثقة متماثل فإن الأصل في صانعي المشهد الرقمي وصنائعِه الشكُّ حتى يحيطوا أقوالهم بما يُصدّقها، وقد سئم الناسُ كثرةَ النفي وتراكمَ النفايات.
** حين كتب المؤرِّخ الراحل خالد البسام (1956-2015م) روايته: (لا يوجد مصورٌ في عنيزة) فقد حكى عن حقبة الأربعينيات الميلادية وما قبلها؛ حيث الشفاهيةُ المطلقة المتكئة على التناقل والعنعنات التي منحتها صدقيةً معقولة، وكان يكفي المتلقين معرفتُهم أن أصل هذه الرواية فلانٌ عن فلانٍ عن فلان ليؤمنوا أن ما بها حقٌ أو أقربُ إلى الحق، ولا عذر لمن لم يدققْ ويوثِّقْ ويستقصِ ويستشهدْ.
** ووقت التكوين حُذِّرنا من كُتُبٍ وكُتَّاب، وكان الهروبُ من الوصاية المباشرة سبيلَنا كي نقرأ ما نشاء كيف نشاء ومتى نشاء من غير أن نتأثرَ سلبًا بالإدبار أو إيجابًا بالاستظهار، والمؤدى أننا شئنا أن يتوفر لأذهاننا مسارُ المحاكمة والحكم، وننتهي أحيانًا إلى إلفِ النتائج التي سبقنا إليها أساتذتُنا الغُيُر علينا، وقد نخلص إلى سواها، وفي الحالين لم تكن المسافة بعيدةً بين المنع والمنح، أو بين الـ»مع» والـ»ضد»، وقد ساندَنا الزمنُ المعلوماتيُّ المطير؛ فمن لم يعِ بنفسه فلن يعيَ بغيرِه، ومن يعرف اسمًا لا يراه جديرًا فقد خفيت عنه أسماءٌ أسوأ.
** صار لدينا مصورون وموثقون وشهودٌ ومُحكمون، ولم يبقَ سوى اعتماد منهج المحدِّثين في قبول الروايات وتصنيفها والحكم على الرواة ومنازلهم، وفي الزمن التقيِّ النقيِّ رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كنا إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابتدرتْه أبصارُنا وأصغينا إيه بآذانِنا فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
** لن نبلغ ورعَهم ولو حرَصنا، ولن يأذن الزمنُ بجديتهم ولو سعينا؛ فلعلنا نستطيع تصنيف القول والقائل بين صدقٍ وصادق وكذبٍ وكاذب وأجرٍ وأجيرٍ ومأجور ومأزور وذي هوىً وذي غِوى.
** الروايةُ هي الراوي.