د.فوزية أبو خالد
ليس سهلاً أن تنظر في المرآة في ريعان العمر بغير غرور الصبا وطيش الشباب وتصارع الأضداد إلا أن عبدالواحد الحميد يخترق هذه القاعدة بامتياز ويعمد دون جهد باد على كتابه استثناء غير معتاد في الكتابة عن الذات بعفة عن تمجيدها أو ادعاء بطولات شخصية، فالذي درس على ضوء سراج غير كهربائي تلميذًا صغيرًا من أولى ابتدائي إلى شاب يافع في ثالث ثانوي ليس عبدالواحد وحده بل جيل السبعينات الجامعي من أبناء الجوف وربما من كل أطراف المملكة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، أما الذي عانى قسوة بعض المعلمين وجبروتهم حتى كاد المعلم أن يكون جلادًا وكذلك الذي نمت مواهبه وجاوزت قراءاته الكتب المدرسية على يد بعض آخر من المعلمين حتى كاد بعض المعلمين أن يكون منارًا من لحم ودم لم يكن عبدالواحد ابن الجوف وحده بل كل تلاميذ المملكة بما فيهم تلميذات المدن الكبرى من دفعة الثانوي بالسبعينات أيضاً لقد التمعت عيوني دهشة وأنا أقرأ في سيرة عبدالواحد قائمة الكتب التي كان يقرأها في عطل المدرسة الصيفية في مرحلته الإعدادية والثانوية وولعه صبياً بالراديو وتعلقه على مشارف الشباب بملاحقة الصحف والتراسل معها ولقاءاته الصحفية في عمر ندية مع «مسؤولين كبار» يعملون في المنطقة أو يمرون بها ومراسلة صحف المركز بها وتلك الكاميرا البدائية التي استعان بها لتعزيز مهمته الصحفية التي لم يكلفه بها إلا توق مبكر.
لقد رف قلبي حنيناً وأنا أشاهد عبدالواحد قراءة يتابع مجلة العربي العتيدة، مجلة قافلة الزيت، مجلة الهلال، مجلة المنهل ومجلة اليمامة لذلك الوقت، يقدم الإذاعة المدرسية ويكتب مجلات الحائط بالمدرسة ومجلة أسرية بالبيت ويشارك بحماس في معارض المدرسة السنوية وفي حفلاتها الختامية ويسترق شح اللحظة لرؤية أفلام بالأبيض والأسود، يتحمس لقيم العدل والتحرر والحقوق التي تمثلها القضايا العربية والقضايا العالمية المعاصرة من الجزائر إلى فلسطين وثورة الفيتكونغ في فيتنام الشمالية في مواجهة أمريكا، ويصغي بجوارحه الغضة لصوت فيروز وموسيقى الرحبانية في الغضب الساطع وفي زهرة المدائن. كأن عبدالواحد كان كل منا أي كانت مواقعنا على خريطة الوطن لتلك الأجيال المولودة على جسر تحولات المجتمع من الشفهية للقراءة ومن العزلة للمد العربي ومن العيش الكفافي للبدايات المتواضعة لدخل الريع النفطي ومن المراعي الصحراوية والواحات والقرى الزراعية والمدن الأولية إلى التوسع الحضري ومن شتات البداوة لاستقرار المدن ومن الاستقرار بمعناه الركودي إلى التحول بالمعنى النهضوي.
هل كان قدرا أن يكون ذلك الجيل المولود من بداية الخمسينات لبداية الستينات واقعًا من مطلع العمر بشكل جماعي في إدمان الكتب مكباً على نفس ينابيعها في الأدب والفلسفة من المنفلوطي إلى طه حسين ونجيب محفوظ ومن دونكخوت وتوم سوير لسارتر وكولن ويلسون وشكسبير على مختلف براعمنا ومكوناتنا الأسرية. تحدث عبدالواحد عن الكيفيات التلصصية التي كان ذلك الجيل الشظف يحصل فيها على خبز المعرفة. لقد استوقفتني طويلاً حيلة عبدالواحد البريئة الماكرة في الحصول على أرغفة إضافية من الكتب من مكتبة الثقافة العامة بالجوف عندما خاطر بدور المنقذ لانتشالها من التطهير الرقابي الذي هم بها (ص 255), فتلك الحيلة كانت شبيهة بحيلة أمي التي كانت تتحزم بالكتب وكأنها حامل في تمويه لعيون الرقابة لتحملها لي من سفرياتها مع أبي خارج المملكة, كما ذكرتني بحيلتي حين كنتُ أرشي زميلاتي القليلات ممن لدى أسرهن مكتبات منزلية باختلاس بعضها ونادرًا ماكنتُ أعيدها وأذكر منها كتاب هكذا تكلم زردشت.
لقد نبش شجني تجاور تجاربنا تشابهها الفتان وهوامشها الخاصة المستقلة كما هالني ذلك التقارب غير المتوقع بين تجربتي كبنت وبين تجارب الأولاد وبين تجربة «البرجوازية» التجارية الصغيرة في المدن والبرجوازية الريفية الصغيرة في الأطراف «مع مجازية المصلح» حين ينتمي جيل ما لنفس مشارب الولع بالكلمة والفكر والكتب سواء من باب الهواية أو من بوابة التهيؤ المهني بالسير على تلك الطريق المعرفية الخطرة المتسمة بالجدة والغموض معا لم تكن صدفة غريبة أن التقي بعدة أجيال جوفية وعربية ومن عروق الجزيرة العربية بين ضفتي الكتاب فقد كان د.عبدالواحد أميناً أمانة منهجية نادراً ما نجدها في كتب السيرة الشخصية في ذكر الأسماء، بل في قيافة أثرها الاجتماعي والمعرفي المباشر وغير المباشر في المشهد المكاني والزمني للسيرة موثقاً الكثير منها بصور الأشخاص أو المواقع أو السجلات من أرشيف منظم بالمعنى الاحترافي لحفظ الذاكرة المكتوبة والمصورة وكأنني أمام مكتبة حية لشريحة مجسدة من تاريخ وطن.
لم أجد غرابة في أن التقي داخل الكتاب بعبير البدايات الذي لا تنطفئ رائحته عادة في الوجدان أمام أسماء عدد من مجايلي تلك البدايات أو المؤسسين لها عبدالله مناع، سليمان الحماد، طلعت أبوجبال رحمهما الله، أحمد عسيري، جارالله الحميد, حمد القاضي, خالد الدخيل, عبدالله باخشوين, عبدالله المعيقل إلا أنه كان محط مفاجأة غير عادية بالنسبة لي أن أجد نفسي وجها لوجه مع صوري بضفائري الفاحمة الطويلة بمريول المدرسة التفاحي بأثر مساطر المعلمات على كفي وبنجوم دفاتري في التعبير والرياضيات كيفما قلبت بصري في الكتاب. أما المفاجآت غير الأخيرة من مفاجآت ذكريات جيل فقد كان ورود اسم منيرة خالد الحميد (ص 243) في عمل صحفي وكأنه رمز متعمد مفعم بالأسئلة غير المنطوقة لحضور وغياب النساء في السيرة... ومثلها كان حضور الأم والجدة الومضي والفارع وليس أخيرا الكتاب بالقليل الذي ذكرتُ وبالكثير العميق مما تحتويه صفحاته من الشهادة الابتدائية بسكاكا الجوف لدرجة الدكتوراه بميلواكي بولاية وسكانسن مفخخ بمشتركات الملح والخبز والحلم والحبر في شغف المعرفة وعشق الوطن عبر الأجيال.