د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
استقبل المجتمع العلمي والثقافي خبر إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بفرحٍ وسرورٍ غامر، فهو نبأٌ مهم سيكون له تأثير فعّ ال على مستقبل لغة القرآن الكريم وخدمتها، خصوصًا إذا عرفنا أن هذا الاسم الذي تشرف به المجمع له دلالات عميقة، فمليكنا المفدى، رجل علمٍ ومعرفة، وقارئٌ نهم، يملك ثقافة واسعة، ومحبٌّ للغة العربية، ولا أدل على ذلك من اهتمامه حفظه الله، بكل ما يقوله ويكتبه، فكلامه فصيح، ومقالاته في الصحف والمجلات السعودية والعربية إلى جانب محاضراته تتسم: بسمو العبارة، وقوة السبك، واكتمال البناء، وعمق الدلالة، أما مجلسه - أدام الله عزّه - الذي أتشرف بحضوره منذ أكثر من خمسة عشر عامًا فلا يخلو من كلماته المعبرة التي تعكس اعتزازه بدينه ولغته ووطنه وشعبه.
لا تزال تتردد في ذاكرتي تلك الكلمات التي قالها سيدي الملك سلمان عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض، في حفل افتتاح الندوة الدولية الأولى عن الحاسب واللغة العربية التي رعاها، في مطلع شهر ذي القعدة عام 1428هـ، والتي أشار فيها إلى أهمية استخدام اللغة العربية في التقنية، ومما قاله في حفل افتتاح هذه الندوة: «لقد أولت المملكة العربية السعودية استخدام اللغة العربية في تقنية المعلومات والاتصالات جُلّ اهتمامها، وهذا ما تؤكده السياسة الوطنية للعلوم والتقنية، وكذلك الخطة الوطنية للاتصالات وتقنية المعلومات»، ليؤكد على «أهمية تعزيز حضور اللغة العربية في جميع ميادين الحياة، بما في ذلك وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت، وفي مجال التقنية»، ولعل هذه الرؤى النيرة حول اللغة العربية وسبل تطويرها التي طرحها - أيده الله - قبل أربعة عشر عامًا! تكشف اهتمامه بلغتنا العريقة، وحرصه على دعمها وتطويرها في مختلف المراكز التي تشرّفت بتسنُّمه لها، ويعزز ذلك أيضاً الموافقة السامية الكريمة من لدنه على إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي سيضطلع بالكثير من المهام حيال خدمة لغتنا الخالدة وتعزيز انتماء أبنائها بها، حيث يُمثّل الاهتمام بالعربية إحدى الركائز الأساس التي تقوم عليها ثقافة هذه البلاد المباركة، فهي اللغة الرسمية لبلادنا، ومن ضمن البنود الرئيسة في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم الذي ورد فيه: «المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض»، وعبر هذه المادة من النظام الذي قامت عليه المملكة تتجلى مكانة اللغة العربية، ومنزلتها في بلادنا، وقد عكس هذا الاهتمام قادة هذه البلاد منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل - طيب الله ثراه -، مرورًا بالعهود المباركة التي تسنَّم الحكم فيها أبناؤه البررة من بعده، الملوك: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله، حتى هذا العهد الزاهر الزاخر، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، الذي توالت فيه القفزات التنموية فشملت شتى المجالات وكافة الأصعدة، لتبرز عبرها رؤية سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، مهندس الرؤية، والعضيد الأمين لملك هذه الباد وفقهما الله.
لم يغب الاهتمام باللغة العربية عن مشاريع المملكة التنموية الطموحة المؤسسة لنهضة هذا الوطن ورقيّه واستقراره، حيث يبرز الاهتمام باللغة العربية في رؤية المملكة 2030، فهي من ضمن أولوياتها، لتشكّل العربية محورًا مُهمًّا ضمن محاور القوة في هذه الرؤية التي تركز على (العناية بالهوية الوطنية واللغة العربية والتعليم)، وهذا ما جعل مؤسسات الدولة على اختلافها تركز على هذا المحور وتدعمه، فقبل مدة وجيزة صدرت موافقة مجلس الوزراء على إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وهو ضمن المقترحات المتميزة التي رفع بها سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن فرحان إلى المقام الكريم، وتهدف هذه المبادرة إلى دعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها التي تعكس الهوية الثقافية العربية الأصيلة، لتكون هذه المبادرات الوضاءة ضمن أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المضمار، ولم يكن لهذه المبادرات أن ترى النور لولا الدعم الكبير والمتواصل من قبل قيادة هذه البلاد؛ التي دفعت المؤسسات إلى تفعيل اللغة العربية في مختلف المجالات، ليكون حضورها ضمن الأنشطة الفعّالة مجتمعيًّا، ومن أبرز المبادرات الخلاّقة التي يجدر الإشارة إليها في هذا الفلك، التعاون المثمر بين وزارتي: الثقافة والرياضة، وذلك بكتابة أسماء اللاعبين باللغة العربية، وهي مبادرة جريئة، وغير مسبوقة تهدف إلى جعل اللغة العربية ضمن المكونات الأكثر حضورًا في الجانب المجتمعي، خصوصًا لدى فئة الشباب، والأجمل في هذا الأمر هو استثمار مبادرة (عام الخط العربي 2020)، لتكون هذه الفعالية الحيوية ضمن أبرز الأنساق التي تدعم اللغة العربية وحضورها، حيث استطاعت وزارة الثقافة بقيادة الأمير الشاب بدر بن فرحان، أن تنقل مفهوم (خدمة اللغة العربية) من الخيال إلى الواقع! ومما أبهج المهتمين بهذه اللغة الخالدة تأكيد وزير الثقافة على دعم هذه المبادرات وتطويرها، إلى جانب ضمان استمراريتها لتكون أكثر تأثيرًا، وأنا على ثقةٍ بأن «القادم أجمل» كما وعدنا سموه، وأن لدى وزارة الثقافة الكثير لتقدمه إلى المجتمع الذي يتطلع في كل يوم إلى مثل هذه المبادرات الفعّالة التي تصنع طموحه، وثقافته، فمجتمعنا مُحبٌّ للغة العربية ومُتيّمٌ بها، وقد برز لي ذلك بوضوح في خضم خدمتي لها عندما كنت عميدًا لكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تشرفت بالإعلان عن المسارات العلمية الجديدة للكلية وهي مشروع عمِل عليه أساتذتي وزملائي في الكلية على مدى ثماني سنوات، وأُقرت هذه المسارات بعد أن عرضتها على مجلس جامعة الإمام في جلسته الأولى عام 1438هـ، وتمت موافقة المجلس عليها بالإجماع، لتتضمن الخطة الإعلان عن ثلاثة مسارات جديدة وهي: مسار لغة القانون والأنظمة، ومسار اللغة الإعلامية، ومسار علم اللغة الحاسوبي، وقد سرني تفاعل المجتمع مع هذه المسارات، خصوصًا من دارسي العربية ومحبيها في الجامعات الأخرى، إلى جانب تفاعل المجتمع مع تدشين المعرض الدائم للغة العربية الذي أشرفت على تأسيسه وتدشينه في كلية اللغة العربية، والذي افتتحه معالي مدير الجامعة الأسبق، وأستاذنا الكبير خالد المالك الذي أتحفنا بمحاضرة قيمة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الموافق 18 ديسمبر 2016م، حيث فوجئت بالحضور الغفير الذي شهدته الكلية بهذه المناسبة من قبل المهتمين من مختلف الفئات، إلى جانب الطلبات الكثيرة التي تلقيتها من أجل زيارة المعرض، الذي يعد أول معرض دائم للغة العربية على مستوى المملكة، وهو من أبرز المشاريع التي توليت تأسيسها وافتتاحها إبان عملي في الكلية، وهي جانب أعتز به من تجربتي في خدمة اللغة العربية.
إن أول ما يطالعني في ميدان خدمة اللغة العربية هو معرفة قوانين اللغة وطبيعة المجتمع المستهدف، واستيعاب الطرائق المناسبة لخدمتها في النطاق الذي يوائمها، وفق ما تقتضيه المعطيات المحيطة بها، وهذا الأمر يتطلب حصافة وبعد نظر، وقد أدرك سمو وزير الثقافة أهمية هذا الأمر، واستطاع تفعيله بالطريقة المناسبة التي تعيد للغتنا بريقها ورونقها، فجزيل الشكر والتقدير لصاحبي السمو وزيري: الثقافة، والرياضة، على دعم وتفعيل هذه المبادرة المتميزة والجادة (عام الخط العربي 2020)، وكُلنا أمل أن تستمر هذه المبادرات التي تصب في خدمة اللغة العربية وتعزيز مكانتها، ولعل القطاعات الحكومية والخاصة تقتدي بهاتين الوزارتين، لنشهد مبادرات خلاّقة في خدمة هذه اللغة الخالدة، وتفعيل دورها في أروقة المجتمع، لتضطلع هذه المؤسسات والجهات بدورها الريادي في خدمة المجتمع السعودي، وتحقيق تطلعات القيادة الكريمة في هذا الميدان، فاللغة العربية هي إحدى الأعمدة الرئيسة التي قامت عليها هذه البلاد العزيزة، وتطويرها ودعمها والدفاع عنها والحفاظ عليها واجب شرعي ووطني.