أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد ضمن الله سبحانه وتعالى للأمة المحمدية بوعده الشرعي، وقدره الكوني: أنه لن تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة؛ وهكذا كان قدر ربنا سبحانه وتعالى الكوني: يكون إذ يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ويكون بكف قوى الشر بإرادته سبحانه على الرغم من ضعف طائفة الحق؛ ولهذا أحببت نشر الأمل بتحقيق هذا الحديث رواية ودراية؛ ليعرف المسلم موطئ قدمه وقت الغربة، ويعرف أوصاف الطائفة المنصورة؛ فينضم إليها بالنواجذ؛ ومن ثم يعيش سعيدًا حميدًا؛ فإن نابته نائبة من أعدائه مؤذية، مات شهيدًا.. وكنت أردت تحقيق هذا الحديث من كتابي (الفكر الإسلامي)؛ فإذا به يخرج كتابًا مستقلاً؛ فرأيت إصداره ضمن الأجزاء الحديثية التي تنشرتها دار ابن حزم بالرياض، وأخذت خلاصته في كتابي (الفكر الإسلامي)؛ وجعلت الكتاب قسمين: الأول تحقيقه رواية؛ فبدأت بمن رواه من الصحابة من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ثم جعلت بقيتهم على حروف المعجم.. وحديث كل صحابي رتبته حسب الرواة عنه؛ فأذكر مثلاً رواية سليمان بن الربيع: عن عمر رضي الله عنهما؛ فلا أتركها حتى أستوفي طرقها محققة؛ ثم أنتقل إلى رواية (أبو الأسود الديلي) عن عمر رضي الله عنهما؛ وهكذا.. (قال أبو عبدالرحمن: أوردته هكذا (أبو الأسود) على الحكاية؛ لأن الحكاية أصح فيمن اشتهر بكنيته؛ فالأصل في ذلك الرفع).. والقسم الثاني تحقيق الحديث دراية.. أسوق فيه نص العالم كاملاً إذا لم يكن تكراراً لكلام عالم سبقه؛ ثم أضيف ما استجد عند من جاء بعده، وأكتفي بتحشيات ضرورية، أو مداخلة سريعة يقتضيها المقام.. وأما التحقيق فمرهون بالفراغ من نصوصهم بوقفات ذات أناة وتبصّر؛ وغرضي ما جاء في الطائفة المنصورة، وأما صحب سياق الحديث من جمل مثل: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)؛ فإنه إذا ورد بنص مفرد غير مصحوب بذكر الطائفة المنصورة: اكتفيت بالإحالة إلى مصادره في الحاشية مكتفياً بصحته، منتهياً عند غرضي من الكلام عن الطائفة المنصورة.. ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.. (قال أبو عبدالرحمن: الأسلم والأفضل (الإمام ابن تيمية؛ لأن شيوخ الإسلام أمم رضي الله عنهم جميعاً؛ والمعتاد أن كلمة (رضي) دعاء لا خبر) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في (صحيح البخاري) في كتاب (الاعتصام)؛ وهو: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون، شبرًا بشبوذراعًا بذراع)، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟.. قال: (ومن الناس إلا أولئك)؛ بين شيخ الإسلام -رحمه الله -: (أن هذا ليس على عمومه)؛ فقال: (وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة؛ بل قد تواتر عنه (صلى الله عليه وسلم): أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة.. وأخبر أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته).. (قال أبو عبدالرحمن: عن كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1 /81-82 لابن قيم الجوزية بتحقيق الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل/ توزيع وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة/ الطبعة السابعة عام 1419هجرياً).
قال أبو عبدالرحمن: فحكم شيخ الإسلام بتواتر الحديث، واستثنى به عموم الانحراف في الأمة.. ولا ريب أن سياق الحديث في نفسه يقتضي هذا الاستثناء؛ فصيغة (لا تزال) تعني عدم الانقطاع.. وصيغة (من) التبعيضية، وصيغة (طائفة) تعني قلة؛ وإذ حصل هذا المعنى نعود إلى صيغة (لا تزال) الدالة على عدم الانقطاع؛ فنراها دالة على انقطاع من الكثرة؛ لأن القلة مستثنون بالديمومة.. وأمة كل رسول هم القوم الذين أرسل إليهم، ومحمد رسول للثقلين وفيهم البشر كافة؛ هذا هو مقتضى أمر الله الشرعي.. إلا أن سلوك البشر قسم أمة محمد إلى أمتين: أمة آمنت به؛ وهي أمة الإجابة.. وأمة كفرت به؛ وهي أمة الدعوة الذين يجب دعوتهم إلى دين الله؛ والمقصود بالحديث الشريف أمة الإجابة؛ فمنهم من انحرف، ومنهم طائفة لا تزال على الحق.. والانحراف بينه شيخ الإسلام بقوله: (فعلم بخيره الصدق أنه في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضاً، وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى .. (قال أبو عبدالرحمن: الانحراف أعم من ذلك؛ فيشمل ما ليس عند المتمسكين من أهل الكتاب من كفر بالأديان محض، ومن إباحية وعبثية جاءت من ضلال التفلسف غير المهتدي بالشرع).. وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف؛ بل وقد لا يفسق أيضاً؛ بل قد يكون الانحراف كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ).. انظر كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) 1 /82 .
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو التصوف المحض؛ فلا تلازم بين الكفر والتكفير، والفسق والتفسيق، والبدعة والتبديع؛ لاحتمال ارتفاع العذر بجهل أو خطأ اجتهاد مع نزاهة القصد.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5 /111-112: (فالمجتهد المستدل من إمام، وحاكم، وعالم، وناظر، ومناظر، ومفت، وغير ذلك إذا اجتهد واستدل؛ فاتقى الله ما استطاع: كان هذا هو الذي كلفه الله إياه؛ وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله ألبتة، خلافاً للجهمية المجبرة؛ وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله.. لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة في قولهم: (كل من استفرغ وسعه علم الحق)؛ فإن هذا باطل كما تقدم؛ بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب.. وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله؛ فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعاً من الهجرة، وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام؛ فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون؛ بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفاراً، ولم يكن يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه).. وقال رحمه الله في منهاج السنة 5 /98-99: (ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأموراً به، أو فعل محظوراً؛ وهذا هو قول الفقهاء والأئمة؛ وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين.. وهذا القول يجمع الصواب من القولين؛ فالصواب من القول الأول قول الجهمية الذين وافقوا فيه السلف والجمهور؛ وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل على الشيء يتمكن من معرفة الحق فيه؛ بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة؛ والقدرية يقولون: إن الله تعالى سوى بين المكلّفين في القدرة، ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا، ولا خص المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا؛ وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف، والعقل الصريح كما بسط في موضعه؛ ولهذا قالوا: إن كل مستدل فمعه قدرة تامة يتوصل بها إلى معرفة الحق.. ومعلوم أن الناس إذا اشتبهتعليهم القبلة في السفر؛ فكلهم مأمورون بالاجتهاد والاستدلال على جهة القبلة؛ ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها، وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط؛ فيظن في بعض الجهات أنها جهتها، ولا يكون مصيباً في ذلك؛ لكن هو مطيع لله ولا إثم عليه في صلاته إليها؛ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها؛ فعجزه عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها، كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها؛ ولهذا كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول: إن الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بترك المأمور، أو فعل المحظور، والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة، بخلاف الجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم؛ فإنهم قالوا: بل يعذب من لا ذنب له، أو نحو ذلك).. وقال -رحمه الله - في منهاج السنة 5 /239-240: (المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر؛ بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ؛ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية.. وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها بغير علم)؛ ولهذا حديث يأتي إن شاء الله تعالى، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -