د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قد تكون البيئة أو الأصل أداة لتحديد المسار؛ فبيت العلم -مثلاً- قد يتيح للأبناء أو بعضهم التوجُّه العلمي. وبيت السؤدد والجاه قد يصنع شيئًا؛ فقد رأينا أن بني أميّة قد سادوا في الجاهلية والإسلام. وبنو العباس هم سلاله علي بن عبدالله بن عباس، ونحن نعلم أن العباس هو عم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهم ابن سيد قريش عبدالمطلب؛ ولا غرابة في أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه.والمماليك الذين حكموا مصر كانوا أبناء قادة ومقربين لدى حكام آخرين.
وابن رشد الحفيد كان عالمًا وفيلسوفًا، ووالده كان أيضًا عالمًا، أما جده فقد كان أشهر علماء الأندلس في عصره؛ لهذا كان يفرّق بينهما بلقب ابن رشد الحفيد، وابن رشد الجد.
وابن الخطيب الوزير والشاعر والمؤلف كان عالمًا مميزًا، من بيت علم مشهور. وقبل هؤلاء ابن زيدون الوزير والسياسي والشاعر والناثر كان والده وجده لأمه عالمَيْن مميزَيْن، وقد كان ابنه أيضًا وزيرًا وشاعرًا، لكن بدرجة أقل. وقد قُتل مع من قُتل في زمن الطوائف.
هناك مَن أجلسته قدراته على كرسي الشهرة لموهبة لديه، مثل الموهبة الشعرية عند المتنبي، وابن الرومي، والبحتري، أو الموهبة اللغوية مثل الخليل بن أحمد، وابن جني، والأصمعي وغيرهم، أو حتى مثل شعراء ماجنين كبشار بن برد، وأبي نواس، والشاعرة ترهون القلاعية.
هناك من نال الشهرة بفضل قدرته المميزة في الاختراع، ووضع النظريات العلمية، مثل ابن حيان، ابن خلدون، ابن سيناء، فيثاغورث، نيوتن، أينشتاين، وغيرهم الكثير، لكن هناك من قُتل بسبب آرائه العلمية رابطين ذلك بالهرطقة والخروج عن الدين. لكن هناك من جاءت إليه الشهرة مقتادة، وسارت إليه النعمة والسعادة، وطرقت بابه دون أن يمشي إليها، وحلت بداره دون أن يرنو إليها. وهناك قصة يمكن سردها، قد تكون قريبة من المثال، ويمكن بها تمليح المقال؛ فالمعتمد ابن العباد حاكم أشبيلية أشهر حكام الطوائف، لا لشجاعته وقتاله الأعداء، وإنما لنمط حياته، ورغد عيشته، ومجالسه وشعره، ومأساة مآله، وسوء مصيره المحزن.
فقد ورث حكم أشبيلية من أبيه المعتضد بن عباد، الظالم القاسي، الذي لم يسلم إلا القليل ممن حوله من بطشه، وكان ممن نجا الوزير أبو الوليد بن زيدون الشاعر والسياسي البارع، وكان له حديقة خلف منزله، يُقال لها حديقة الرؤوس، كان يضع فيها رؤوس مَن يقتلهم، ويكتب أسماءهم على جماجمهم، ويخرج بين الفينة والأخرى؛ ليستمتع بهذه الحديقة لإشباع شمفيونيته المقيتة. وعلى خلاف ذلك، كان ابنه المعتمد بن عباد شاعرًا رفيقًا عاشقًا للجواري الحسان، والإماء والقيان، حتى أنه قد جمع في قصره أكثر من ثمانمائة جارية من كل صوب، يقول فيهن الشعر، ويستمتع بإحداهن كلما أراد، واللحن ترسله النحور، وللعود حضور، فتتغرد به الطيور، وتتمايل الغواني بالخصور، فيطرب ويأنس. وقد قال ابن زيدون قصيدة في قصر المعتمد المسمى «المبارك»، منها قوله:
وتأمل القصر المبارك وجنة
قد وسطت فيها الثريا خالا
قصر يقر العين منه مصنع
بهج الجوانب لو مشي لاختالا
ما زلت تفترش السرور حدائقًا
فيه، وتلتحف النعيم ظلالا
وذات يوم كان في نزهة على شاطئ البحر مع صديقه وخليله منذ شبابه أبي بكر بن عمار، حتى أنه كان أقرب إليه من حبل وريده؛ لا يستغني عنه ساعة من ليل أو نهار، ثم ركبا البحر، لكنّ ريحًا هبت فزردت الريحُ البحر، أي رفعت موج البحر، فنزلا إلى الشاطئ، فقال المعتمد لوزيره ابن عمار: «صنع الريح من الماء زرد»، وأراد من صديقه أن يكمل عجز البيت، فأطال ولم يقدر، وكان على الشاطئ شابات يغسلن الملابس بأجر زهيد، ومنهن شابة متوسطة الجمال، وقد وقف الصديقان بالقرب منهن، ولم يكن فيهن من الجمال ما يغري، لكن تلك الشابة التي سميت فيما بعد اعتماد الرميكية؛ لأنها كانت جارية للرميكي، سمعت ما قال المعتمد، ورأت أن ابن عمار قد أطال، فقالت: «أي درع لقتال لو جمد»؛ فأعجب المعتمد قولها؛ وضمها إلى جواريه، لكن ما لبثت أن صارت سيدة القصر والجواري، وولدت له عددًا من الأولاد والبنات، وينقل لنا المقري في انفح الطيب أنها «كانت تسير مع زوجها وسيدها المعتمد، فرأت نساء يمشين في الطين حافيات الأقدام، فالتفتت إلى زوجها وقالت: أشتهي أن أمشي في الطين مثلهن، فصمت المعتمد، وبعد أن عادوا إلى القصر أمر مساعديه بأن يصنعوا بركة، ثم أمر بأن يحضروا أخلاط الطيب والمسك والكافور، ثم عجنت بماء الورد، ووضعت في البركة، ثم دعاها ذات يوم إلى ذلك المكان، وقال لها: يمكنك أن تمشي الآن حافية على هذا الخليط من الطيب المشابه للطين».
ودارت الأيام، وخاصمته وخاصمها ذات يوم، وقالت: إنني لم أرَ منك خيرًا قط، فقال لها: «ولا يوم الطين» فخجلت، وندمت على قولها. ودارت الأيام، وأُخذ إلى السجن في أغمات بالمغرب وهي برفقته، وأبناؤهم، وزارته في العيد وهو في سجنه برفقة بناته وهن حافيات من شدة الفقر، فقال من قصيدة له:
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
هكذا الدنيا، أشرعت لاعتماد الرميكية أبوابها، مع أنها لا تملك قدرات أو مواهب أو أرومة، وتتمنى المشي في الطين مثل الفقراء، فيأبى زوجها وسيدها، وسيتبدل الطين بالطيب، ثم تدور الأيام، ويميط الدهر اللثام عن وجهه الكاشح، وتزوره في سجنه بدل قصره حافية الأقدام مع بناتها، تطأ مثل الفقراء على الطين بدل الطيب. فسبحان مغيّر الأحوال.