أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
تستوقفنا في بقايا العَرَبيَّة المدوَّنة ظواهر تدلُّنا على أنَّ قواعد النُّحاة شيءٌ ولغة العَرَب قبل التقعيد شيءٌ آخَر قد يختلف. ومن ميزات الشِّعر العَرَبي، بقانون عَروضه الصارم وقوافيه، أنْ حَفِظَ لنا شواهد على تلك الظواهر اللغويَّة، لا تقبل الشكَّ. ففي العَروض، يدلُّ قول الشاعر، على سبيل المثال:
أَرِقـتُ لِـبَـرقٍ دُونَـهُ شَـدَوانِ
يَمـانٍ وأَهـوَى الـبَرقَ كُلَّ يَمانِ
فظَلْتُ، لدَى البَيتِ العَتيقِ، أَخِيْلُـهُ
ومِطْوايَ مُـشـتـاقانِ لَهْ أَرِقانِ
على لهجةٍ عربيَّة، ما زالت مسموعةً إلى اليوم، تُسكِّن الضمير في «لَهُ». ولولا الوزن لما بقي لنا هذا السِّجِلُّ عن بعض لغة العَرَب المنطوقة قديمًا. وتلك اللهجة هي (لهجة سَراة الأزد). والبيت من قصيدةٍ منسوبةٍ للشاعر الأُموي (يَعلَى الأَحول الأَزدي، -90 هـ= 710م). فلقد نَصَّ (الأخفش الأوسط)(1) على أنَّ تلك لهجة (سَراة الأزد)، واستشهد بالبيت. على حين بَرِمَ بعض النُّحاة بالبيت؛ فعَزَوا ما وردَ فيه إلى الضرورة الشِّعريَّة، من حيث أُقفِلت عقولهم على عَرَبيَّةٍ لا تختلف في شيءٍ عن قواعدهم. فيما حوَّر آخَرون البيت ليستقيم وتلك القواعد، فجعلوه: «ومِطْوايَ مِنْ شَوْقٍ لَهُ أرِقانِ»، وليذهب الشاعر، ولهجته، وأمانة الرواية، إلى الجحيم! (2)
وكذا نقف في القوافي على ما سمَّاه العَروضيُّون (الإقواء)، وهو اختلاف حرف الرويِّ في الحركة. وتلك ظاهرةٌ غير محدودةٍ في الشِّعر العَرَبيِّ القديم، جاهليِّه وإسلاميِّه، لم تختفِ إلَّا منذ العصر العبَّاسي تقريبًا. ويكفي المرءَ أن يستقرئ كتاب «الأغاني»، لـ(أبي الفرج الأصفهاني)، وهو كتابٌ في الشِّعر المُغنَّى أصلًا، ليعرف مقدار تفشِّي الإقواء في الشِّعر العَرَبي. وما هو بإقواء، إلَّا بعد أن حُكِّمت فيه قواعد النحويِّين؛ فصار الرويُّ يُرفَع ويُنصَب ويُـجَـرُّ، حسب القواعد المفروضة.
ولو طُرِح السؤال هنا: أ كان الشاعر يُخطِئ في النغَم، أم في النحو؟
لبدت الإجابةُ: إنَّ الخطأ في النغَم صعب التصوُّر؛ لأنَّه شأنٌ صوتيٌّ موسيقيٌّ، يُدرِكه الشاعر بالفِطرة، وبأيِّ لغةٍ صاغ شِعره. على الرغم من بعض الحكايات التفسيريَّة لما يُسمَّى (الإقواء)، التي تبدو مصنوعة؛ لتنسبه إلى الخطأ في التقفية، لا إلى بناءٍ نحويٍّ كان مستساغًا. من مثل قِصَّة الإقواء في شِعر (النابغة الذبياني)، ووفوده إلى (يثرب)، ومن ثَمَّ إدراكه العيبَ في شِعره لمـَّا أسمعوه إيَّاه مغنًّى.(3) وهذا مستبعَدٌ جدًّا؛ لأنَّ حاسَّة الشاعر الموسيقيَّة أدقُّ من حاسَّة المغنِّين والموسيقيِّين.
ولقد كانت الظاهرة ملحوظةً لدَى الشعراء، بدءًا من (امرئ القيس) في معلَّقته، ذات الرويِّ المكسور. التي جاء فيها بيته، الذي حار في إعرابه الرواة:
كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدْقِهِ
كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ (مُزَمَّلُ)
وصولًا إلى الشعراء الأُمويِّين،
(كجميل بُثينة، -82هـ) (4)، القائل:
عَلى ظَهْـرِ مَرهُـوبٍ كَـأَنَّ نُشُـوْزَهُ
إِذا جـارَ هُـلَّاكُ الطَّـريقِ وُفُـوْدُ
سَبَتْني بِعَينَي جُؤْذَرٍ وَسْطَ رَبْـرَبٍ
وصَدْرٍ كَفاثُورِ اللُّجَـيْنِ وجِـيْـدِ
وكـ(ابن الدُّمَينة، -130هـ) (5)، وهو شاعرٌ بدويٌّ فصيحٌ، حيث يقول:
بأَهْـلي ومالي مَن بُـلِـيتُ بِحُـبِّـهِ
ومَن حَـلَّ في الأَحـشَاءِ دَارَ مُقَـامِ
وإِنِّـي لَـيَـثْـنِـيني وما بِـي جَلادَةٌ
عَنَ اْتِـيْـكِ أَقـوَامٌ عَلَـيَّ (كِـرامُ)
مَخافَةَ أَنْ تَلْقَـي أَذًى أو يُـفِـيدَنِـي
هَـوَاكِ مَقامًا لَيسَ لِـي بِـمَـقَـامِ
عَلِمْتِ الَّذِي يُرضِي العِدَى فَأَتَيتِهِ
كـأنْ لَـم يَـكُنْ مِـنَّا عَليكِ (ذِمامُ)
فإِنْ كُـنتِ تَجـزِينَ الـمُحِبَّ بِحُبِّهِ
أُمَـيمَ، فَقَـد، واللهِ، طالَ هُـيامِي
وِصالُ الغَوَانِي، بَعْدَ ما قَد اذَقْتِني
عَـلَـيَّ إِذا أَبـْلَلْتُ مِـنكِ (حَرَامُ)
فالراجح أنَّ الشاعر لم يكن يُقْوِي، بل يقول: «كِرامِ، ذِمامِ، حَرامِ»، برغم القواعد (السِّيبويهيَّة)!
والشاهد أنَّ العَرَبيَّة، بعد التقعيد، قد أُلزِمتْ بما كان العَرَب لا يلتزمون به قبل التقعيد دائمًا، بل كانت لهم فيه سَعة. وما بُني من قواعد العَرَبيَّة إلَّا على الغالب من كلام العَرَب، غير المطَّرد بإطلاق. ولا يَحتجُّ بقواعد النحويِّين عالِـمٌ على مَن سبقهم إلَّا على سبيل الرُّجحان من استعمال العَرَب، وحسب الاستقراء المتاح إبَّان تدوين العَرَبيَّة. ومَن فعلَ ذلك، فقد تنطَّعَ، جاهلًا أو متجاهلًا حكاية نشأة النحو، وليدًا، فشيخًا، فمعلِّم صِبْيَة، يضرب بعصاه بَحْرَ العربي َّة، وإنْ إلى (سَيناء) التِّيْه!
... ... ...
(1) انظر: (يناير/ فبراير/ مارس 1986)، «كتاب العَروض للأخفش»، تحقيق ودراسة: سيِّد البحراوي، مراجعة: محمود مكي، (مجلَّة «فصول»، (القاهرة)، المجلد 6، العدد 2: ص ص125-161)، 148.
(2) انظر: (1979)، خزانة الأدب ولُبُّ لُباب لسان العَرَب، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 5: 269- 000. وينقل إلينا (البغدادي) أنَّ تلك اللهجة كانت في (بني عقيل)، و(بني كلاب)، أيضًا.
(3) انظر: الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبَّاس وإبراهيم السعافين وبكر عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 11: 9. ونزعم أنَّ سببًا قَبَليًّا أيضًا كان وراء حكاية (النابغة) تلك، وتعلُّمه تلافي عاهة (الإقواء) في (يثرب)، موطن (حسَّان بن ثابت). (انظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2009)، ألقاب الشُّعراء: بحثٌ في الجذور النظريَّة لشِعر العَرَب ونقدهم، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 76).
(4) (1979)، ديوان جميل، جمع وتحقيق وشرح: حسين نصَّار، (القاهرة: دار مِصْر للطباعة)، 66. وفي كلمات الشطر الثاني من البيت الأوَّل اختلافٌ بين الرُّواة. على أن (الإيطاء) في قصيدة (جميل) هذه أمرٌ آخر، عجيبٌ. والإيطاء: تكرار كلمات القوافي.
(5) (1959)، ديوان ابن الدُّمَينة، صنعة: أبي العبَّاس ثعلب ومحمَّد بن حبيب، تحقيق: أحمد راتب النفَّاخ، (القاهرة: مكتبة دار العروبة)، 43- 44.
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)