د. فهد بن أحمد النغيمش
قبل الخوض في مكنون (التعليم عن بعد) وما يحمله من مفاجئات وأزمات وتحديات لابد من التعريج تلميحا وتصريحا على مفهوم الجودة (Quality) كمصطلح علمي اكتسب شهرته ونال معرفته في العصور المتأخرة، أنشئت لأجله مؤسسات ومنظمات وأفردت له العديد من البحوث والدراسات التي ازدانت بها أروقة المكتبات والأرفف والمجلات، بل لا تكاد تخلو مؤسسة ولا منظمة تعليمية أو غير تعليمية من إطلاق مسمى الجودة على دائرة من دوائرها وإفراد العديد من الاجتماعات والميزانيات لأجله، بعضها شكلي تقليدي وبعضها فعلي تفاعلي كانت نتائجها وفق ما رسم لها من أهداف عالمية ومحلية.
إلا أن هناك تباينا واضحا وجليا في فهم مصطلح الجودة وتطبيقاتها ما بين مؤمن بوجودها ومعارض لها!! الجودة بمفهومها البسيط غير المتكلف تعني الإتقان وهذا ما جاء به شرعنا المطهر وديننا الحنيف إذ قال سبحانه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، أي ذلك صنع الله البديع إلى أحكم كل شيء خلقه وأودع فيه من الحكمة ما أودع وقد حث رسولنا صلى الله عليه وسلم على التجويد والإتقان في كل عمل نقوم به ونعمله فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
والإتقان هنا يستدعي من المرء أن يؤدي عمله على أكمل وجه، وأن يسعى للوصول به إلى مرحلة الكمال الإنساني، بحيث يقوم بالعمل بكل تفاصيله دون تقصير أو تفريط أو غش أو خداع وهذا يستدعي الإخلاص الكامل في العمل، هذا في ديننا وشرعنا الذي نتعبد الله سبحانه بأدائها، يؤكد ذلك جميع الأدبيات العلمية التي تحدثت عن مفهوم الجودة في التعليم حيث أنها دعت إلى إتقان العمل والوصول إلى رضا المستفيد وهذا ما أكده عالم الجودة (Deming) حين عرف الجودة بتعريف مختصر قال فيه: الجودة هي تحقيق احتياجات وتوقعات المستفيد حاضرا ومستقبلاً.
اليوم العالم يعيش عصر الثورة المعلوماتية، أو ما يسمى العصر الرقمي كما يسميه البعض، ومن خلاله استطاع أن يقدم خياراً آخر أو شكلا آخر للتعلم عن طريق الجامعات والمدارس التي تقدم تعليما عن بعد يتيح لمن لا يستطيع الانتظام في طلب العلم في مقر المؤسسة التعليمية لارتباطات عملية أو قيود وعقبات مكانية وزمانية قد تحول بين فرصة التعلم واكتساب المعرفة، و(التعليم عن بعد) اكتسب في الآونة الأخيرة شعبية واسعة وتم تبنيه عالمياً وبالتالي اختلفت ممارساته حسب السياقات الثقافية المختلفة وحسب جودة تطبيقه، إلا أن الجودة تعد عاملاً رئيسا في تنظيم الخدمات المقدمة من أي مؤسسة تعليمية ومع التوسع في تطبيق التعليم عن بعد أصبحت الحاجة ملحة لضمان كون هذه البرامج المقدمة بطرق (التعليم عن بعد) تلبي الحد الأدنى من معاييير الجودة أكثر من قبل فليست العبرة في أن أكون قد قدمت تعليما إلكترونيا أو قل إن شئت (تعليم عن بعد) بقدر ما تكون ذات جودة متفق عليها في تنفيذها ومطابقة لمعايير الجودة التي تتطلبها مرحلة التطبيق !
اليوم ضغطة زر على جهاز الحاسوب تدخلك إلى صفوف الدراسة في الجامعات الأمريكية أو البريطانية أو أي جامعة ولو كانت في أقاصي الأرض.
(التعليم عن بعد) ليس وليد اليوم ولا حاضر الأمس إنما هو قديم قدم ولادة التقنية الحديثة فقد كانت جامعة لندن في المملكة المتحدة أول جامعة تدخل نظام التعليم عن بعد عام 1858م لطلبتها الذين تمنعهم ظروفهم من الانتظام في قاعات الدراسة، ثم أخذت الولايات المتحدة بهذا الأسلوب حيث تأسست برامج التعليم بالمراسلة في جامعة إلينوي الحكومية عام 1874م وبعدها تطورت العملية وأصبح (التعليم عن بعد) جزءا لا يتجزأ من أي مؤسسة تعليمية سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى التعليم العام وعلى ضوئها يمنح لصاحبها شهادات ويعامل مثل أي خريج حصل على الشهادة بنظام الانتظام بل ويعامله المجتمع وفق قدراته دون النظر إلى آلية الحصول على المؤهل، ما حصل لدينا في تعليمنا للأسف عكس ذلك تماما إذ لم يُعتدّ بالشهادة بل وصل ذلك إلى التشكيك في القدرات من أعلى مسؤول في العملية التعليمية حينذاك حتى وصلنا إلى مرحلة (اللاعتبارية بالتعليم عن بعد)!!
اليوم تجبرنا الأزمات إلى اللجوء إليها واعتبارها أساسا في العملية التعليمية ولا غرابة في أن تجد الوزارة صعوبة كبيرة في تنفيذ التعليم عن بعد فإزالة القناعات الراسخة والمترسخة مسبقا عن (التعليم عن بعد) تحتاج إلى جهد وزمن كبير لتصحيح الأفكار المغلوطة عن مدى فاعلية (التعليم عن بعد) بدءا من القيادات العليا مرورا بالوسطى وانتهاء بالأسرة والمجتمع، فقد نحتاجها يوما ما وإن كنا لسنا مقتنعين بفاعليتها ونتائجها.
جودة (التعليم عن بعد) لا تكمن في توصيل المعلومات إلكترونيا إلى الطالب فقط, ولكنها تعني التفاعل بين عناصر العملية التعليمية في بيئة التعليم الإلكتروني المحترف. ويمكن تعريف الجودة في (التعليم عن بعد) بأنها «عملية الإنتاج المشترك بين بيئة التعليم الإلكتروني والمتعلم والمؤسسة التعليمية بما سيضمن أن المخرجات من العملية التعليمية لا تتأثر بعمليات إنتاج المؤسسة».
وبمعنى آخر, فإن جودة التعليم الإلكتروني يقصد بها تخريج طالب قادر على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة, وليس إكساب الطالب المعرفة أو المعلومة عن التكنولوجيا بل أيضا طريقة التعامل معها والاستفادة منها والتفاعل مع معطياتها وحيزها الذي تستخدم فيه.
المجتمع والبيئة الأسرية في وقتنا الحاضر لا زالت تحتاج إلى تثقيف وتوعية مسبقة بأهمية (التعليم عن بعد) ولو أن الوزارة حذت حذو الجامعات في تخصيص بعض من المقررات للتدريس عن بعد لما وجدنا صعوبة في التوعية بأهمية التعليم عن بعد ولكانت العملية أسهل مما هو حاصل اليوم ولوجدنا بيئة مهيئة وسلسة وقابلة لبدء العملية التعليمية عن بعد ومن المعلوم بدهيا وعلميا أن منظومة الجودة التعليمية ترتكز إلى أربعة عناصر أساسية هي: النظام التعليمي وما يشتمل عليه من نوعية مواد التعليم وطرقه والمعلم والمنهج منظومة, الجودة التعليمية ترتكز إلى أربعة عناصر أساسية هي:
1- النظام التعليمي وما يشتمل عليه من نوعية مواد التعليم وطرقه والمعلم والمناهج.
2- النظام الإداري المساند للنظام التعليمي.
3- النظام الاجتماعي للطالب والمعلم.
4- التقنيات والأدوات التي تفرزها ثقافة الجودة في البيئة التعليمية ومالها من دور في عملية التحسين المستمر وهذه للأسف ما نفتقدها في منظومة التعليم العام سواء من المعلمين أو الطلاب.
الحكم على جودة (التعليم عن بعد) في ظل هذه الجائحة (كوفيد -19) ما زال مبكرا ولكن قد تكون تلكم الأزمة بمثابة صرخة نذير للمؤسسات التعليمية والأكاديمية للاهتمام بـ(التعليم عن بعد) وداعية إلى أن يكون جزءا لا يتجزأ من العملية التعليمية مثل تخصيص بعض الواجبات المدرسية وبعض الأنشطة والبرامج من خلال بوابة الكترونية تفاعلية على مستوى المدرسة أو على مستوى الوزارة بالرغم ما تعانيه التقنية حالياً في المؤسسات التعليمية من صعوبات وتحديات هي في الحقيقة نتاج طبيعي لسنوات من الإهمال والتهميش بدأت بالظهور على السطح مؤخراً.
هناك عوائق وتحديات من الطبيعي أن تكون مقلقة وفي نفس الوقت هي محفزة لبذل الكثير من الجهد في التغلب عليها ووضع الخطط المناسبة للقضاء عليها يأتي في مقدمتها:
1- كلفة التجهيزات والشبكات لكل مدرسة على حدة.
2- وجود عقليات تقليدية لا تستوعب أهمية التقنية واستخداماتها.
3- غياب التكوين المستمر والجهل باستعمالات شبكة الإنترنت من الكادر التعليمي والأسرة على حد سواء.
4- اعتماد أساليب وتقنيات غير ناجعة بصورة تنقصها الكفاءة والمصداقية.
5- التقليل من أهمية الشهادات الصادرة عن هذا التعليم؛ بإقصاء حامليها من ولوج بعض الوظائف في القطاعين العام والخاص.
ويبقى أن المراهنة على التعليم عن بعد في عالم اليوم هي مراهنة رابحة بكل المقاييس، تؤكدها التجارب العالمية المتطورة في هذا الشأن، وهو ما يفرض استحضار عدد من المداخل التي من شأنها تعزيز مكانته ضمن منظومة التعليم، والتي تتركز أساساً في تعميم الربط بالإنترنت داخل المؤسسات التعليمية وفي المناطق النائية، وتوفير الإطار القانوني اللازم لتشجيع وتبني هذا الخيار، إضافة إلى ضمان جديته وجودته بما يتيح الاعتراف بالشهادات الصادرة في هذا الإطار.
** **
أستاذ إدارة التعليم العالي المساعد - جامعة المجمعة