د.سهام صالح العبودي
لا شيء في تاريخ الأمم يعدل استعادة لحظاتها الخالدة، فما الذي يجعل التاريخ تاريخًا إذا عجَز عن جعل وقائعه منارات تضيء طرقات السائرين، وتلهم المريدين المقتدين، وجعلِ حكاياته مرويَّة على لسان المتكلِّمين؟!
في حوار تلفزيوني مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - إبان تولِّيه إمارة منطقة الرياض - أفصح لأوَّل مرة عن فكرة الاحتفال بمرور مائة عام على دخول الملك عبد العزيز -طيَّب الله ثراه- الرياض، وحكى عن الفكرة التي ابتدأت من الشهر الثالث في عام 1410هـ. كانت تلك المائة - التي اكتملت بعدها في الخامس من شهر شوال عام 1419هـ - هاجسًا وطنيًّا مضيئًا يعمُر قلب سلمان، وكان حديثه ذاك مكتنزًا بأرقام التاريخ وشواهده الزمنيَّة الدالَّة، وبدا وهو يستظهر تلك التواريخ العلامات شديد الحرص على توطيد العلاقة الروحيَّة بين الزمن وما يقوله امتداده، وما تشكِّله الوقائع التي علَّمته حتى صار تاريخًا له وقعه. لقد كان الزمن يمرُّ في كلِّ الأحوال، لكن العلامة التي تتركها فوقه القلوب الجُسُر هي التي تجعله شيئًا مذكورًا، مستعادَ المفاخر، ومُستنطَقَ العِبرة.
تخبرنا تلك الروح السلمانية في حماستها أنَّ من لا يتذكَّر لا يَعتبر، ومن لا يَعتبر لا يمكن أن يَعبُر، وكانت المملكة على موعد مع عبور كبير في تلك اللحظة التي غيَّرت وجه نجد، والجزيرة العربيَّة -بل العالم كلَّه- في شتاء عام 1319هـ، وهي لحظة حقيقيَّة وصادقة؛ وذلك ما جعلها تبلغ بعظمتها هذا العمر؛ لتجسِّد - بامتدادها قرنًا - حقيقة ما تفعله الخطوة العظيمة: أن تكون مبتدَأً لسلسة طويلة من الخطوات التي يمكن كلَّ واحدة منها أن تكون حدثًا مؤرَّخًا وواقعة مشهودة، ناهضةً بكلِّ ما فيها من حمولة معنويَّة ودلالات تشبع نهم قارئ التاريخ، والمتدبِّر لأحوال الأمم.
كانت تلك المائة تستحق الاحتفال؛ فأن نؤرِّخ يعني أن نعطي علامات نقيس بها المسافات التي يَقطعها الأثر، أن نشهد هذا الكيان مذ كان أملًا في قلب رجل مؤمن بقضيَّته حتى صار دولةً تسكن قلوبَ رجالها ونسائها كافة.
واليوم - مع اختلاف الحياة والوسائل والطرق، وبعد قرن في عداد السنين- سنجد أنَّ التاريخ لا يصبُّ أبطاله في قوالب متشابهة؛ فلكلِّ بطلٍ صورته، لكنَّ البطولة هي الحقيقة التي يثبتها التاريخ وإن تعدَّد الأبطال، واختلفت أزمنتهم، وتمايزت وسائلُ تمكُّنهم. وحين دخل الملك عبد العزيز في ذلك اليوم المشهود من باب (المصمك) كان دخوله إعلامًا وإعلانًا وبدءًا لتحوُّل كبير، والاحتفالُ بمائة على هذا الدخول إعلامٌ وإعلانٌ من نوع آخر: إعلامُ التأمُّل، واستنفاد الدروس، وقراءة خريطة البطولة. واليومَ بعد عقود تزيد على ذلك القرن يطلُّ الملك سلمان بن عبد العزيز على العالم ممثِّلًا المملكة في (قمَّة العشرين): إعلامٌ وإعلانٌ آخران من باب مختلف: باب قمة الرقم ذي السطوة والمعنى والأثر، قمة القوى العظيمة المسيِّرة المغيِّرة التي يَعُدُّ العالم خُطواتها؛ لأنَّه يعرف - يقينًا - أنَّها ستكون خطواته، أن تكون في قمِّة العالم يعني - قطعًا - أنَّك قد بلغت مئات القمم قبلها، فخلف هذه الخطوة العظيمة تحتشد آلاف الخطوات مباركة ومثمرة، وكانت دائمًا في الطريق الصحيح؛ فالأبطال يَعرفون خلف أيِّ باب سيكون موعدهم مع التاريخ!
قبل ستِّ سنوات حين انتقلت دفَّة الحكم، وآل أمر الدولة إلى حكيمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان قال في كلمة ما بعد البيعة: «سنظلُّ بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبد العزيز -رحمه الله - وعلى أيدي أبنائه من بعده -رحمهم الله- ولن نحيد عنه أبدًا»، هاهنا أيضًا فكرة الوفاء للتاريخ، واستكمالِ المسيرة، واستعادةِ لحظات المجد الذهبيَّة، هذا عهدٌ جديدٌ متمِّمٌ لتجربة الدولة السعوديَّة التي دخلت أبواب التاريخ فتيَّة، ثم تبوَّأت أعلى قممه، وغدت النموذج المشار إليه بإعجاب، والتجربةَ التي يُرجى استنساخها، والرؤيةَ التي لا يمكن أنَّ تمرَّ دون أن تدلَّ على كلِّ ما هو سعودي مشرق ونبيل. إنَّ مقولة المجد لا تغيِّر جوهرها، بل تُحوِّل وسائلها مستطلعة كلَّ ما في عالم اليوم من معطيات كي تُبقي وهجَ حضورها، هذا ما تقوله كلمة الحكمة السلمانيَّة الفريدة التي تُصاغ من جواهرها إشاراتُ العمل، وأدلَّةُ الطريق.
لم يكن ميراث من التاريخ والمجد - يومًا - عبئًا هيِّنًا؛ لكنَّ بصيرة السياسي، وحكمة القائد تعرف كيف تستند إلى هذا الميراث حصانةً، وحصافة، وتجذيرَ وجود، وتعرف كيف تمدُّ يدها إلى المستقبل إيمانًا بأنَّ الغد لا يقوم إلاَّ على بيِّنة من أحوال الأمس.
إذا كنَّا نتذكَّر العهود والولايات ونوثِّق مقامات الأبطال في مواقعهم الزمنيَّة فإنَّ المسألة لا تقف عند رقمٍ يدوَّن ويُنسى حين تُطوى عليه دَفَّتا كتاب، بل هو استذكار يعتبر بمتغيِّرات تُرى بين مسافة زمنيَّة وأخرى. وهكذا يظهر التاريخ في صورته الأسمى: عامرًا بالأفعال نضَّاخًا بالمفاخر، ومحمولًا على أكتاف الإنجازات، ومقرِئًا متأمِّليه العِبر، ومؤيِّدًا الحاضرَ بدروسه، ومعلِّقًا للمستقبل قناديله الدالَّة. وفكرةُ الاحتفال تعني الحظوةَ بلحظات مبهجة سارَّة لكنَّها ستبقى مقروءة مستمرَّة الأثر، وفي الاحتفال بالبيعة نكون في مقام يسمح للتاريخ أن يُريَنا ما نحن عليه -حقيقة- منذ مبتدأ الحكاية إلى ما شاء الله لنا، إذ نحن مؤمنون بقوَّة الرؤية التي ترسم معالم مستقبل الحياة لأمَّة شابة متجدِّدة إيمانًا بأنَّ عينين مستطلعتين مخلصتين تعرفان - حتمًا - أين تضعان الخطوة القادمة.
كانت الرياض - وما زالت - حبَّ سلمان، واليوم صار العالم يسمع صوتَها من صوته: صوتِ العقل، والسلام، وصار ينتظر إشاراتها وقراراتها كي يقرِّر ويتحرَّك. كانت الرياض في لحظة من التاريخ حُلمًا يملأ روح الملك عبد العزيز، لم نرَ عينيه الناظرتين إلى مدينته الغالية من بُعْدٍ نظرة تمنٍ وأمل، لكنَّنا حين نرى بلادنا اليوم في علوِّ مقامها ندرك أنَّ الأحلام قريبة في عيني المؤمنين بها، وأنَّ شعلة اليقين لا تنطفئ إنْ أوقدت من شجرة الحقِّ.
منذ أن سمعتْ أسوار الرياض صيحات النصر: «الحكمُ للهِ ثمَّ لعبدِ العزيز» عرفتْ هذه الأرض أنَّ خطَّة الحياة في هذا المكان قد ابتدأت بكلمة من الله، وأنَّ الشريعة السمحة هي كفالة هذا الوجود على اختلاف العهود، وحتى هذا العهد: عهدِ الرؤية، والتحوُّلِ والتمكين: تتجدَّد المفاهيم، وتمتدُّ الخطط، وتتوسَّع دوائر الأحلام؛ لكن اليد التي تحوِّل الأحلام إلى حقيقة هي اليد التي امتدتْ مبايعةً، ومسلِّمة العهد إلى سلمان: الرجل الذي يحمل التاريخ في عقله، ويَستظهر علاماته الزمانيَّة كي يستقرئ أحوالَه، ويستثمرَ دروسه، ثمَّ يقلِّبُ نظره في حاضره مقدِّرًا الأحوال مستطلعًا الحاجات. يدرك العقل المحنَّك أنَّ صورةَ مَا سيكون إنَّما تُولد من مزيج بين ما كان وما هو كائن، وهذا الدرس التاريخي الذي تنطق به الحكمة السلمانيَّة في طيَّات الحديث يجعلنا - ونحن في ذكرى البيعة - نعيد اكتشاف علاقتنا بالتاريخ، ونَتأمُّل وقائعه من منظور هذا المليك القائد المعلِّم.