ريم الحربي
في لحظات من التأمل والهدوء نتوقف قليلاً عند قوله عزَّ وجلَّ {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،
نجد أن الإنسان ينعم في تشريع إلهي يوجهه إلى مبدأ سامي يرتقي بكيانه ويحافظ على علاقاته الاجتماعية ويعزز صحته النفسية.
وتدعوه أن يعيش حياة قائمة على العفو والصفح والتسامح بعيداً عن الأحقاد والأضغان والمشاعر السلبية ولذة الانتقام التي تدمر العلاقات وتشوه الشخصية وتضيق نطاق الحياة السوية.
وقد بادرت منظمة الأمم للتربية والثقافة والعلوم إليونسكو لتعتمد في مؤتمرها العام في دورته الثامنة والعشرين في السادس عشر من نوفمبر للعام 1995م إعلان المبادئ بشأن التسامح، وتتخذ السادس عشر من نوفمبر من كل عام يومياً دولياً للتسامح.
وتعود جذور هذه القيم السامية لمرحلة الطفولة، ويتم تعززيها من خلال خبرات تلك المرحلة إذا يبرز دور الأسرة فيما تستخدمه من أساليب المعاملة الوالدية والتنشئة الاجتماعية، فالطفل الذي ينشأ في بيئة يغلب عليها طابع التسامح منذ نعومة أظافره سوف يظهر من خلال معاملته لرفاق اللعب ولزملائه في المدرسة، ولجيرانه.
والتسامح يعد من سمات الشخصية الإيجابية، ويرى مارتن سليجمان أن العفو والتسامح من الركائز الأساسية لعلم النفس الإيجابي، فهو يسير ويمهد لحدوث الانفعالات الإيجابية، كالأمن، والتفاؤل، الابتكار، والحب، كما يسهم بدرجة كبيرة في تحقيق التوافق النفسي وتكامل الذات والشعور الذاتي بالسعادة والحب والإيثار.
وقد ميَّز الباحثون بين أنماط عدة من التسامح:
حيث ميَّز ستوب نمطين من التسامح، يُطلق على النمط الأول التسامح الحقيقي، وعلى النمط الثاني التسامح السطحي.
ويتضمن التسامح الحقيقي حدوث تغير حقيق في أفكار الُمساء إليه، ومشاعره اتجاه من أساء إليه، حيث يتخلص من مشاعر الغضب والاستياء، ويتخلى عن حقه في الثأر أو الانتقام ممن أساء إليه.
ويشكل التسامح الحقيقي عملية تحدث تحولاً لدى كل من الُمساء إليه والُمسي. أما التسامح السطحي فيتم التعبير عنه سلوكياً فقط، فيصدر الفرد سلوكيات تُعبِّر عن التسامح استجابة للضغوط الواقعة عليه من الآخرين، ومجاراة للأعراف الاجتماعية.
ويحدث التسامح السطحي عندما يجبر الفرد الذي أُسيئ إليه على مسامحة المسيء. ونتذكر قوله تعالى {فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
وهناك أنماط أخرى:
التسامح المقصود: فيه يقرر الُمساء إليه أن يتسامح مع من أساء في حقه، ويعمل بجدية على إضعاف مشاعره السلبية تجاهه.
ونمط التسامح الأحادي: حيث يختار الُمساء إليه أن يسامح من أساء إليه بغض النظر عما إذا كان المسيء يشاركه هذه العملية أم لا، أي شعور المسيء بالنادم والخزي عما فعل.
وأخيراً نمط التسامح المتبادل: ويشير إلى مجموعة من السلوكيات الأخلاقية التي يقوم بها كل من المسيء والُمساء إليه تتضمن الاعتراف بالخطأ، وإبداء الندم، والتسامح، والتخلي عن إيذاء الآخر.
وتتأثر رغبة الشخص في التسامح بالعوامل الفردية كالشخصية وعوامل المواقف منها مقدار وحجم الإساءة، ودرجة قرابة المسيء، وارتباطه بمدى حبه أو كرهه، وكذلك بمدى تقبله له أو نفوره منه، وتوقعه لتكرار الإساءة في المستقبل.
وبينت الدراسات أن من يمارس التسامح ينعم بالهناء والرفاه النفسي والصحة الجيدة.
كما ارتبط التسامح بانخفاض معدل ضربات القلب، وضغط الدم، وزيادة كفاءة الأوعية الدموية.
والتسامح لا يقتصر حدوده على ثقافات وأقليات ودول أو فنون معاملات إنسانية بل يمتد إلى تسامح الفرد مع ذاته أولاً وتجاوزه عن أخطائه، والتعلم منها، والابتعاد عن اللوم وجلد ذاته عما حدث في حياته.
وتحديد ما أفضى إلى ذلك؛ نتاج أفعاله أو من تصرف شخص آخر حتى يستطيع أن يسامح ذاته أو يعفو ويصفح عمن تسبب بذلك.
ولنتذكر بأن نقاء الحياة ومتانة العلاقات وشدة ترابطها في العيش بالتسامح والصبر لا بالصد والزجر.
** **
- أخصائية نفسية