عبدالرحمن الحبيب
في بداية انتشار وباء كورونا اختلفت آراء علماء وخبراء الأوبئة، وتتشتت أذهاننا فضلاً عن حيرة أصحاب القرار.. اختلافات على شتى المواضيع: الوقاية، العلاج، انتقال العدوى، سلوك الفيروس.. وسرعة ابتكار اللقاح الذي قيل خلال شهور أو سنة وربما سنتين حتى خمس سنوات.. بل وصل الاختلاف على القاعدة الأساسية لمواجهة كورونا، فثمة دول تبنت فرض حظر شامل وأخرى حظر جزئي وثالثة اكتفت بالتباعد الاجتماعي.. هذه الآراء ليست عبثية، بل رصينة مؤسسة منهجياً.
بطبيعة الحال، هذه الاختلافات تقلصت كثيراً مع تراكم نتائج الدراسات العلمية، إلا أنها عادت للظهور بعد الإعلان عن لقاح ناجح بنسبة 90 في المائة من شركة فايزر الأمريكية. فهذا الإعلان أتى بعد بضعة أيام من الانتخابات الأمريكية مما دعا البعض إلى التشكيك بالتوقيت باعتباره مُسيساً رغم نفي الشركة وتأكيدها أن المسألة خاضعة للعلم وليست للسياسة.. تلا ذلك ببضعة أيام لقاح روسي «سبوتنك» بنسبة نجاح 92 في المائة فظهرت شكوك بطبيعة التنافس الدولي.. تلاها بأيام شركة مودرنا بنسبة نجاح 94 في المائة، ثم عادت شركة فايزر لتبشرنا بارتفاع نسبة نجاح لقاحها إلى 95 في المائة فزادت الشكوك حول التنافس التجاري، خاصة مع توالي الإعلانات عن لقاحات جديدة..
كذلك تم التشكيك بسرعة إنتاج اللقاح، فإنتاج لقاح فعال وآمن قد يستغرق ما بين 5 إلى 10 سنوات، حسب مجموعة أكسفورد للقاحات، وهي واحدة الفرق البحثية لتطوير لقاح لفيروس كورونا، لكنها أيضاً أوضحت أن هناك جهوداً للتعجيل بلقاح كورونا في غضون فترة تراوح من 12 إلى 18 شهرًا، رغم تحذير الخبراء من مخاطر تسريع إنتاج اللقاح، بينما يرى بعض الخبراء أنه من الطبيعي تقلص مدة إنتاج لقاح لكورونا بسبب معرفتنا العلمية المسبقة لهذه العائلة من الفيروسات، وتكثيف الجهود خاصة ضخامة الدعم المادي. لذا، من المهم إدراك الطبيعة النسبية للنتائج العلمية، والأهم هو تفسيرها لأصحاب القرار من قبل مستشاريهم العلميين.
بهدف توعية أصحاب القرار (السياسي والصحي والبيئي والتعليمي) لتحسين فهمهم لطبيعة العلم غير الكاملة وتحسين قدرتهم على استجواب مستشاريهم العلميين وفهم محدودية الأدلة العلمية، نشر باحثون علميون بمجلة نيتشر (nature) وهي الأشهر علمياً على مستوى العالم، عشرين ملاحظة لتفسير الاستنتاجات العلمية، وأطلقوا عليها مهارة التفسير العلمي. واقترحوها أيضاً لأي شخص يتفاعل مع نتائج الدراسات العلمية خصوصاً الإعلاميين.
«لا توجد قياسات دقيقة.. والانحياز أمر شائع في اختيار منهج البحث.. والافتراض مفيد بأن أحد الأنماط هو السبب لنمط آخر، لكن الارتباط قد يكون صدفة، أو نتيجة لحدوث كلا النمطين بسبب عامل ثالث، كمتغير مربك، أو كامن.» هذا مما نشر في تلك الملاحظات؛ خذ مثلاً، اعتقد علماء البيئة سابقاً أن الطحالب السامة تقتل الأسماك في مصبات الأنهار، ولكن اتضح لاحقاً أن الطحالب نمت حيث مات السمك، فعُرف أن الطحالب لم تسبب موت السمك (Borsuk, et al. 2003).
لذا هناك مبدأ في الفلسفة العلمية بأن «الارتباط لا يقتضي السببية» فقد يكون الارتباط صدفة أو نتيجة لحدوث كلا النمطين بسبب عامل ثالث..الخ. قبل سنوات، طلب محرر دورية «علم الأوبئة» Epidemiology الأمريكية من الباحثين التوقف عن استخدام الدلالة الإحصائية بالمقالات التي يقدمونها، نظراً لدأبهم على إساءة تفسير معنى الاختبارات المهمة بشكل متكرر؛ مما أدى إلى توصيات غير فعالة أو مضللة بالسياسة الصحية العامة.. فقد تؤدي دراسة إلى نتيجة ذات دلالة إحصائية صغيرة ولكن ذات تأثير كبير، فأهمية حجم التأثير قد تكون مسألة حيوية أو فيزيائية أو اجتماعية وليست إحصائية (Fidler, et al 2004). هذا يوضح إمكانية إساءة تفسير النتائج العلمية الصحيحة فضلاً عن إساءة تفسير لغة الأرقام..
ذلك لا يعني أن نتائج الدراسات العلمية غير موثوقة، بل يعني أن لها نجاحاً عملياً مرحلياً وصدق نسبي وليس حقيقة مطلقة لكل زمان ومكان. وليس الغرض هنا الشك المحبط بالعلم بل الشك الصحي المحفز لتطوير طرق التفكير وأدوات القياس ومناهج البحث، وعدم الركون للمعارف التي تعوَّد عليها المجتمع العلمي. فرغم أن الحقيقة هي ما يثبت أمام امتحان التجربة العلمية، إلا أن الطرق العلمية لتنفيذ التجربة تظل مسألة نسبية قابلة للتطوير..
هناك مبدأ في الفلسفة العلمية بأن «الارتباط لا يقتضي السببية» كما اتضح بمثال الطحالب والسمك. خذ مثالاً آخر من كتاب «الكلب الذي يبيض» لمؤلفيه البروفسورين الألمانيين بورنهولد ودوبن: أظهرت دراسة في إحدى المدن أنه بكل حريق كلما زاد عدد الإطفائيين زاد ضرر الحريق. عُمدة المدينة فرض تجميد فوري للتوظيف وخفض ميزانية مكافحة الحرائق. يقول المؤلفان السبب ليس عدد الإطفائيين، بل كلما زاد الحريق زاد عدد الإطفائيين والعكس ليس صحيحاً. مثال آخر أقل غباءً، وجد علماء الصحة «أن بقاء المرضى لفترة طويلة بالمستشفى يؤثر عكسياً في صحتهم. هذا له وقع الموسيقى على شركات التأمين الصحي، لكن اتضح أن المرضى الذين يغادرون المستشفى بسرعة هم أصح من الذين يجب بقاؤهم.» حسب كتاب «فن التفكير بوضوح».
كل ذلك يوضح أهمية إدراك أصحاب القرار والإعلاميين والاقتصاديين، لطبيعة الأسس العلمية لما يقوله علماء الأوبئة، وتداخلاتها مع الواقع الملموس لظروف انتشار وباء كورنا.. وفي تلك التداخلات مقال آخر..