د. جمال الراوي
أذكر في صغري؛ جاءت إحدى أخواتي إلى البيت باكية وشاكية، وتصادف وجود أخي الكبير في البيت؛ فبدأت تشكو لنا معاملة زوجها لها، وذكرت لنا بأنّه يقول عن أهلنا كلمات سيئة، وأنّنا من أصل وضيع، وغير ذلك من كلام؛ تريد به أنْ تستفزّنا حتى نثأر لشرف العائلة الذي أهانه زوجها!... كلُّ الحاضرين ارتكسوا بشدّة لما تقوله؛ يريدون الثأر لكرامة العائلة المهدورة، وبدأوا يُعيّرون زوجها في أصله ونسبه وأخلاقه!... فظهرت مساوئه، بصورة مفاجئة، بعد أنْ كانت مخفيّة طوال تلك المدة السابقة!... كانت ردة فعل أخي مُختلفة، وكانت من الغرابة، لدرجة أنّني لا زلت، حتى يومنا هذا، أُكْبِرُ فيه هذه الحكمة والحصافة!... فاجأنا جميعنا، فقام يبحث عن عصا، ثم توجه يشير بها على أختي، ويطلب منها أنْ تخرج من البيت، وأجبرها بالقوّة على الذهاب معه إلى بيت زوجها!... كان مشهدًا نادر الحدوث، فقد فتح صهري الباب وفوجئ بأخي ومعه أختي، وقد رافقتهما أنا في حينها، فإذا به يرحّب ويهلّل وقد ظهر عليه الخجل، ثم توجه يخاطب زوجته أيْ (أختي) ويقول لها (ادخلي البيت وجهزي الضيافة المناسبة لأخيك)... من يومها، لم أسمع أنّ أختي تركت بيت زوجها.
طوال الطريق، ونحن متوجهون إلى بيت صهري، كان أخي لا يتوقف عن الحديث مع أختي، يؤنّبها على فعلتها، ويقول لها بأنّ النهاية معروفة، فهي سوف تضع العائلة في موقف مُحرج، وسوف يتشدّدون ويحاولون الثأر لها، بينما ستجعلها الأيام أكثر ليونة وستندم على فعلتها، ثم تلجأ لطرق ذليلة حتى ترْجع إلى زوجها، بعد أنْ تُوقِع العائلة في مشكلة كبيرة، وبعد ذلك تعود إلى زوجها، غير عابئة بالشرخ الذي أحدثته!... وبعد أنْ عاد أخي إلى بيتنا، بدأ الجميع يلومونه على تصرفه، ويقولون له بأنّ هذا سوف يجعل زوجها يتمادى أكثر، وأنّه قد أهان العائلة ولا بد أنْ يأخذ عقابه، ولا بدّ أنْ يعرف قيمتنا، حتى يزداد احترامه لنا!... بينما كان شقيقي؛ أكثر حصافةُ، وهو يعرف المآل الذي سوف تؤدي به هذه الحالة، فقال لهم بأنّ أختي، وبعد مضي عدّة أيام، سوف تبدأ حنينها المعتاد وشوقها لبيتها، وسوف تبدأ تتراخى في كلامها، وسوف تبعث إشارات خفيّة لزوجها بأنّها تبغي العودة له ولبيتها، وقد تنسلّ عائدة لبيتها، دون علم أحد، وحينها سوف تضع جميع الأهل في موقف مخز، وسوف يشعرون بأنّ الابنة خانتهم وغدرت بهم، بعد أنّ حرّضتهم ليثأروا لها؛ فيقعوا في ورطة كبيرة، وسوف يشعرون بأنّها استعملتهم، في لحظة غضب عابرة، ثم رمتهم وما عادت تهتمّ لمشاعرهم!... وهو موقفٌ لا أنساه، ومن يومها عرفت قيمة الرجال في مثل هذه المواقف التي تتطلب حلاً حاسمًا وسريعًا دون أيّ تأخير، وقبل أنْ يستفحل الأمر ويصبح الحل أصعب وذا عواقب كارثية!
في حقيقة الأمر؛ قد تخرج المرأة من بيت زوجها، وتذهب إلى بيت أبيها عند حدوث خلاف معه، وقد يكون الخلاف تافهًا لا يستوْجب فضحه أمام الأهل والأقارب، لكنّ المرأة تلجأ إلى هذه الطريقة كوسيلة ضغط وابتزاز، للحصول على ميّزات أكثر أو لمعاقبة الزوج وإجباره حتى يكون أكثر خضوعًا لشروطها! وهي تلجأ إلى هذه الوسيلة، ليكون خروجها ذا عواقب قاسية على الزوج، كأنْ تترك له الأطفال الصغار والرضّع، حتى تُشعره بقيمتها، وأنّها تعاقبه على إساءته لها، أو لهدف آخر كإجباره على الاستقلال عن أهله وترك أمه وأبيه والعيش في بيت مستقل!... ولجوء المرأة إلى هذه الوسيلة حتى يرضخ الزوج لشروطها، قد تأتي بنتائج عكسيّة، فيحاول بعض الأزواج الثأر من زوجاتهم؛ فيرفضون بشكل قاطع الاستجابة لطلباتهنّ، لأنّهم يعتبرون الخروج من البيت مُخالفة شرعية تستوجب العقاب والتوبة، ثم تتطوّر الأمورُ وتمضي أشهرٌ وربما سنون، وتزداد الأمور تعقيدًا وتفشل معها كل الوساطات، وقد تنتهي بالطلاق!
حُجّة المرأة في خروجها من بيتها؛ اعتقادها بأنّها ستجد الحلول في بيت أهلها؛ فتفُاجأ بأنّ الأهل سوف يُفاقمون النزاع بدلًا من تطويقه وتطويعه، وتفاجأ بأنّ خروجها هو أسوأ الحلول التي لجأت إليها، لأنّ سبب تركها منزل زوجها، لم يكن ذا أهمية كبيرة، وقد تتحجّج بأنّ عصبية زوجها وغضبه دفعها إلى هذا التصرّف، وأنّها كانت تريد تجنّب حدوث ما هو أسوأ؛ وهي لا تعرف بأنّه غضبٌ عابر لا يدوم طويلًا، بينما مغادرتها لبيت زوجها؛ يُصبح خطوة خاطئة؛ تُعمّق الخصام والنزاع بينها وبين زوجها... ومعظم المختصين الاجتماعيين؛ يرن بأنّ حرد المرأة وخروجها من بيت زوجها؛ مردّه تربيّة أسرية سيئة ومفاهيم اجتماعيّة قاصرة؛ كأنْ ترى الزوجة بأنّها أعلى شأنًا ومقامًا من زوجها، وأنّها تنتسب إلى عائلة عريقة في النسب والجاه والمال، وتبقى هذه الفوقيّة عالقة في ذهنها، ولا تستطيع التخلّص منها؛ خاصّة إذا كان الأهل يردّدون على مسامعها بأنّهم ارتضوا تزويجهم لها؛ نتيجة غلطة رغم عدم وجود توافق بينهم وبينه!
حَرد الزوجة؛ إحدى الآفات الاجتماعيّة المنتشرة في بعض مجتمعاتنا العربية، وهو أسلوب يفاقم الخلاف ويعمّق المشكلة بين الزوجة وزوجها، وتصبح العلاقة بينهما مفضوحة؛ تلوكها الألسن، فيدلي كلّ فرد من الأسرة بدلوه فيها، وتتفاوت الآراء وردود الفعل بين من يريد إنهاء العلاقة معه وبين من يريد التهدئة، ويكثر اللغط وينتشر الخبر إلى الجيران والأقارب، ويصبح مادةً للتسليّة ونقل الأقاويل والأخبار والشائعات، وقد لا تخلو كلماتهم من الاستهزاء والتقريع، وربما الشماتة!... فالحَرَد؛ هو أسوأ سلاح قد تتخذه وتستعمله المرأة ضد زوجها؛ فهي إنْ أرادت أنْ تُحسّن ظروف حياتها مع زوجها كالحصول على بيت مستقل مثلاً؛ فقد تفقد الزوج والبيت!... وإنْ أرادت استعمال هذا الأسلوب لتأديب زوجها، بسبب عصبيته وغضبه الدائم؛ فقد يزداد في ثورانه وهيجانه، ويحاول الانتقام أكثر من رجولته المُهانة!... وإنْ كانت تريد أنْ تجرّب هذا الأسلوب لإخضاع زوجها لها؛ حتى يُلبي طلباتها ويكون أكثر إنفاقًا عليها؛ فإنّها قد تُفاجأ بالرفض الشديد، وارتكاس الزوج ليكون أكثر بُخلًا وتقتيرًا عليها من ذي قبل!... وإنْ كانت تريد فضح زوجها وتأديبه حتى يغيّر سلوكه تجاهها، وحتى تنفّس عن حالة الاحتقان التي تعيشها معه؛ فقد يؤدي حردها إلى تفجّر براكين أكبر، وظهور انفعالات كانت مخفيّة، فيتبادل الطرفان كلمات السباب والشتائم، ليتطوّر الأمر إلى انهيار بنيان الأسرة وتنشئة أبناء مصابين بعقد نفسيّة كثيرة!
للأسف الشديد؛ فإنّ ظاهرة حَرد المرأة ليست بالأمر النادر في بعض مجتمعاتنا العربية؛ حيث تقوم المرأة بلملمة بعض ثيابها وأغراضها، والخروج من بيت زوجها، والتوجّه إلى بيت أهلها شاكية وباكية!... وقد فازت الأسرة التي وجدت من أفرادها: من يقوم بالفعل نفسه الذي قام به شقيقي، وخسرت وخابت الأسرة التي بدأت تدافع عن كرامتها المهدورة والمزعومة... هذا مع العلم بأنّ بعض الأزواج قد لا ينفع معهم هذا الأسلوب، كمّا أن بعض الزوجات، قد لا يفيد معهم سوى تفريقهنّ عن أزواجهم!