أ.د.عثمان بن صالح العامر
بعد الدخول في العصر الصناعي كثر الجدل حول «الديمقراطية» وتباينت تعريفات المفكرين الأوروبيين لهذا المصطلح، وإن كانت جميعها ترادف التحديد اليوناني في المضمون والدلالة، وإن اختلفت معه في الصياغة، فالجميع ينطلق من أساس واحد «الشعب مصدر السلطة»، وهذا هو جوهر الديمقراطية. ولعل من أشهر التعريفات الاصطلاحية للديمقراطية، وأكثرها تداولاً - مع أنه لا يماثل الواقع التطبيقي للديمقراطية - قول «إبراهام لنكولن» عنها إنها (حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب).
ومفاد هذا التعريف أن الديمقراطية وسيلة حكم بأسلوب المشاركة، من أجل غاية هي مصلحة الشعب بمضمون حرية الشعب. وعلى الرغم من هذه السهولة الظاهرية في التعريف بمفهوم الديمقراطية، إلا أن هناك بعض جوانب من الغموض التي ينطوي عليها، مثل تحديد المقصود بحكم الشعب، وكيف يمكن للشعب أن يحكم؟ وإذا كان الشعب هو الذي سيحكم من الذي يبقى ليُحَكَّم؟ وهل بالإمكان وجود إرادة متشابهة أو متجانسة بين جميع أفراد الشعب تعبِّر عن ذاتها في شكل إرادة جماعية أو تقبّل جماعي للقرارات السياسية؟ وهو ما يعبّر عنه «بالإرادة الشعبية». بالإضافة إلى هذه المصاعب النظرية والفكرية التي تحيط بمفهوم الديمقراطية -مثله في ذلك مثل أي مفهوم سياسي وضعي- فإن هناك صعوبة إضافية من الناحية العملية، تتمثَّل في أن الديمقراطية لا تعني نفس الشيء للشعوب أو للدول المختلفة، فالديمقراطية كمفهوم وكمؤسسة نبعت من الحضارة الغربية ثم امتدت إلى مناطق أخرى من العالم، وأصبح لها الآن استخدام عالمي تتباين مدلولاته من دولة إلى أخرى، ومن ثم تتعدد أشكال الديمقراطية باختلاف النظم، وتنوّع المؤثِّرات المذهبية التي تشكل المجتمعات.
جاء في قاموس السياسة الصادر عن «دار بنغوين» تحت مادة «الديمقراطية» ما يلي: (إن الديمقراطية هي المصطلح الأكثر تقديراً والأكثر غموضاً من بين المصطلحات السياسية في العالم المعاصر ولا يزال، فالأنظمة السياسية المتعارضة كلها تصف نفسها بأنها ديمقراطية)، ويذكر الكاتب (أن اليونسكو عندما عقدت مؤتمرها عن «الديمقراطية» سنة 1369هـ (1950م) حضره أكثر من خمسين دولة مختلفة كل الاختلاف في أنظمتها السياسية وأصرت كلها أنها ديمقراطية).
ويقول أحد الكتاب الغربيين المهتمين بالنظم السياسية المعاصرة: (إن كلمة الديمقراطية معروفة للكل، ولكن قد لا يستطيع أحد أن يُعرِّف الديمقراطية بجملة أو اثنتين، هنا يوجد مصطلح يبدو في الظاهر من السهل أن يفهم، ولكنه في الواقع من الصعب جداً أن يُعْرف وأن يفسر بوضوح وشمول). وجاء على لسان كاتب روسي معاصر ما نصه: (إن الفوضى الراهنة تكمن في كلمة واحدة «الديمقراطية» فكل حزب يشير إليها، ويحاول امتلاكها، وكأنها الطلسم.
الملكيون يقولون إن ملكيتنا هي ملكية ديمقراطية.. ويقول الجمهوريون: إن الجمهورية هي ديمقراطية الحكم الذاتي، ويريد الاشتراكيون والشيوعيون والعناصر التخريبية من الجمهورية أن تكون نقية ومطلقة).
ويضيف الكاتب قوله: (إن سلطان كلمة الديمقراطية لهو من القوة بحيث أن أية حكومة وأي حزب لا يمكنهما تصور إمكانية بقائهما بدون كتابة هذه الكلمة على رايتهما). فهل ما زالت هذه الكلمة قوية والكل يغازلها ويحرص على التغني بها، أو أن الغموض الذي يكتنفها وصعوبة ضمان سلامة تطبيقها سيؤدي إلى أن نشهد انتهاء عصر الديمقراطية؟ وما هي تداعيات وإرهاصات وآثار التجربة الأمريكية الأخيرة على هذا النظام؟ هذا ما سوف أعرج عليه في الحلقة الأخيرة من هذه السلة المتخصصة يوم الجمعة القادم -إن شاء الله- وإلى لقاء، والسلام.