فهد عبدالله العجلان
لم يكن لدي شكٌ في فشل الحملة الإعلامية المنظَّمة التي استهدفت التأثير على الحضور الواقعي ثم الافتراضي للاجتماعات التحضيرية واجتماع القادة لقمة العشرين (G20) برئاسة المملكة العربية السعودية في الرياض. ومكمن ثقتي بفشلها المسبق أنها توجهت لتخاطب سياسيين يجيدون الركض في حقول الألغام، وتم صقلهم في مؤسسات وأحزاب سياسية تدرك الأولويات ومسار المصالح والتعاطي مع الأحداث بأوزانها النسبية، فتلك النخب من السياسيين تملك من مصادر التلقي وأدوات التحليل ما لا يمكن أن تؤثّر معه قصة أو خبر إعلامي موجَّه، ولكن رغم فشلها ونجاح القمة لا يمكن التقليل من تداعيات التأثير التراكمي لها، خصوصًا حين تتوجه إلى الفاعلين في منظمات وجماعات العمل المدني وناشطيه الذين يشكلون القواعد المعرفية للرأي العام في فهم قضايا عديدة، فقد تساهم في المدى المتوسط والبعيد في صياغة مواقف واتجاهات تحد من توسيع دائرة مصالحنا المستقبلية، وهو في نظري الأخطر والأسوأ استراتيجياً.
على الرغم من كل المؤامرات تمكَّنت المملكة من النجاح في تهيئة أجواء القمة لدعم العمل التشاركي والجماعي بشكل لافت، فالعلاقات الدولية تمر بظروف وعلاقات دولية متوترة مرتبطة بالحروب التجارية بين أمريكا والصين، بالإضافة إلى بزوغ تحالفات وكتل جديدة؛ كتلك التي قادتها الصين لتشكيل أكبر كتلة تجارية في العالم (RCEP) والمكونة من خمس عشرة دولة تسيطر على ما يقارب ثلث الاقتصاد العالمي، كل هذه الظروف والأجواء لا تساهم في تبني لقاء يمكن أن ينتج عنه توافق في أجندات دولية كبرى، لكن الدور السعودي الفاعل ساهم في إنضاج توافق بين أعضاء المجموعة لتقديم مصلحة العالم على الخلافات البينية، فجاءت - على سبيل المثال - مبادرة تعليق خدمة الديون للدول الأكثر فقرًا وتمديد مبادرة تأجيل سداد الديون حتى يونيو القادم من عام 2012 في ظروف جائحة لم يستطع أن يصمد أمامها الكبار فكيف بالصغار، كما أن رئاسة المملكة للمجموعة في دورتها الحالية ساهمت في طرح مبادرات لا تستهدف الأثر التنموي قصير المدى لمعالجة آثار الجائحة، بل اختطت مساراً متقدماً لمعالجات تحقق أهدافاً استراتيجية أكبر في إنضاج مشروع أهداف التنمية المستدامة العالمي وتلبية شروطه.
غمرت السعادة أعداء المملكة حين تقرر أن تكون اجتماعات قمة العشرين التحضيرية واجتماع القادة افتراضيًا على الشبكة الإلكترونية عوضاً عن الحضور المباشر، وكان أفقهم الضيِّق يعتقد أن هذه الظروف ستحجِّم استفادة المملكة من تعظيم إيجابيات رئاستها للمجموعة، لكن في نظري أن هذا الأمر قدَّم للمملكة فرصة تاريخية لتعرض متانة وجودة بنيتها التحتية التقنية، وكفاءة فرق العمل ورأس المال البشري الذي تمتلكه لإعداد وتنظيم لقاءات دولية كبرى بهذا الحجم، خصوصاً أنها انتقلت إلى الخيار التقني الافتراضي متأخراً بعد إغلاق الجائحة لقطاع السفر وقد عقدت المملكة خلال هذه الفترة 100 اجتماع وزاري، وأكثر من 600 اجتماع لفرق ومجموعات العمل التحضيرية لرسم مسار تنموي ومواجهة تحديات مصيرية يواجهها العالم بكفاءات وطنية متخصصة واحترافية .
جميع المنظمات والتجمعات الدولية التي تتشكَّل تسعى لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية لأعضائها أو الإقليم الذي تنتمي إليه كمجال حيوي يساهم في تعظيم منافعها استنادًا إلى المزايا النسبية التي يمتلكها الأعضاء، غير أن الجانب الفريد في تأسيس مجموعة العشرين أنها جاءت لتستهدف تعزيز النمو والتنمية الاقتصادية في دولها ودول العالم أجمع من خلال توحيد الجهود وتنسيق السياسات، فبعد أن أيقن العالم مع تجدّد وارتفاع حدة الأزمات الاقتصادية والتحديات التنموية أن الكبار التقليديين باتوا عاجزين عن العمل لصالح أنفسهم والعالم كان لا بد من ومضة إصلاح حقيقي في بنية مؤسسات العمل الدولي المشترك، ولذا كان تبني خيار التوافق في آلية العمل في مجموعة العشرين خطوة مهمة تؤكّد أن الكبار التقليدين في السياسة والاقتصاد قد ضاقوا ذرعًا بحدة النقد والدعوات لإصلاح آلية العمل والقرارات في مؤسسات كثيرة تجمعهم مثل مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة. بالإضافة إلى إدراكهم أنه لم يعد بوسعهم القيام بدور القوي دون احترام للقوى الصاعدة والاقتصادات الناشئة التي تساهم في صياغة المستقبل الاقتصادي والعالمي القادم وشروط المنافسة فيه.
أعتقد في تصوري أن المتأمل في حجم التحديات التي يواجهها العالم والصعوبات التي تكتنف مسار التنمية في دوله يدرك أن مجموعة العشرين ليست إلا نموذجًا من نماذج تطبيقات العمل بنظرية 20 /80 في العمل والتعاون الدولي المشترك.
خلال بحثي في المحتوى العربي لمجموعة العشرين في الفضاء الإلكتروني استوقفني الخلط حول مسؤوليات وطبيعة عمل المجموعة وتقاطعاتها مع مؤسسات التعاون الدولي المشترك الأخرى، بل وحماس بعض الباحثين ومنهم بعض السعوديين أن المجموعة ستقصي مؤسسات اقتصادية مهمة مثل منظمة التجارة العالمية، وأعتقد أن أساس هذا الخلط ينبع من عدم فهم آليات العمل الدولي المشترك، فمنظمة التجارة الدولية إطار عالمي للتفاوض حول قضايا التجارة الدولية والمجموعة ذات بعد اقتصادي تنموي أشمل وأوسع، ورغم اليقين بأهمية وتأثير مجموعة العشرين في المشهد العالمي اليوم أتصوَّر أن الدول الكبرى التي تمثِّل أعضاء في المجموعة غير سعيدة بتوسع دورها وحضورها على حساب المنظمات ومؤسسات التعاون الدولي المشترك التي تمتلك ناصيتها، فآلية التوافق في القرار قد تحرمها مكتسبات الهيمنة التي ظلت ترفل في نعمائها زمنًا طويلاً وتمارسها دون تأنيب ضمير في منظمات ومؤسسات دولية كثيرة، فبقاء مجموعة العشرين دون أمانة دائمة وموظفين ولا أذرع ووكالات تستطيع متابعة وتطوير مبادراتها وتوصياتها، قد يقود إلى استنتاج أن رغبة الكبار في المجموعة هي عدم تعزيز وتوسع دورها، ولذا فإن الدعوة إلى تطوير قدرات الحوكمة في أداء المجموعة سيساهم في تقديم مخرجات تراعي أهداف التعاون الدولي المشترك على الصعيدين الاقتصادي والتنموي المستدام.
رئاسة المملكة لقمة العشرين منح الدول العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك فرصة تاريخية بالمشاركة والمساهمة في اجتماعات ومناقشات متعمقة ترتبط بمستقبل وتحديات العالم، فقد دعت المملكة العربية السعودية الأردن والإمارات وكذلك صندوق النقد العربي والبنك الإسلامي للتنمية بالإضافة إلى مؤسسات ودول أخرى، وتؤكد هذه الدعوات والأولويات منهج المملكة الراسخ أن تكون صوتاً وعضداً مسانداً لكل العرب والدول النامية وحماية مصالحهم في المحافل الدولية، فهي بحق الوطن الداعم للإنسان في كل مكان.