رجاء العتيبي
أينما وُجِد الإنسان، وُجد التمثيل، حتى أن الإنسان البدائي كان يحكي قصصه بحركات تمثيلية إيمائية، يخبر أصحابه بما اعترضه بالأمس من أخطار: إما حيوانات مفترسة هاجمته أو دواب لسعته أو مرتفعات هوى منها. وتطور الحال معه فصار يروي لهم أخباراً ستحصل قريباً؛ كَأنْ يرى سحاباً متراكماً فيخبرهم عبر مشاهد تمثيلية إيمائية أن مطراً سينهمر، أو وحوشاً تسير باتجاههم. وتطور الحال على مر السنين حتى سطوع الحضارة الإغريقية التي بدأ معها التمثيل مرتبطاً بالطقوس الدينية، حتى انفصل عنها لاحقاً؛ في مرحلة انتقل فيها التمثيل من مذابح الآلهة إلى أماكن خاصة؛ ظهر فيها على شكل مسرحية معروضة تنطوي على قصة وممثلين وجوقة، وصار الإنسان محور الحكايا مثلما فعل يوروبيديس تحديداً، في هذه الأثناء وبمجيء القرن الرابع قبل الميلاد، أعلن أرسطو عن نظريته (نظرية المحاكاة) التي ينقل الكاتب بها الواقع كما يمكن أن يحدث وليس كما حدث.
النظرية جاءت من خلال استقراء أرسطو للنصوص المسرحية لمشاهير الكتاب الإغريق الذين سبقوه، حتى ظهرت للوجود في كتابه (فن الشعر) واستمرت حية مع تعاقب الحضارات حتى يومنا هذا، والنظرية غير خاضعة لمعايير القديم والجديد أو التقليدي والحديث لأنها ظهرت بوصفها (قانونا كونيا) باعتبار التمثيل فطرة بشرية يمارسها الإنسان منذ أول يوم خلقه الله فيه حتى موعد الفناء.
كل إنسان أنا وأنت وهو جرى علينا هذا القانون الكوني قمنا من خلاله بمحاكاة واقعنا يوم كنا صغاراً تمثيلاً ولعباً ويوم كبرنا كتبنا أعمالاً درامية أو شاهدناها، فالمحاكاة جزء من مسيرتنا في هذه الحياة، ليس فيها جديد ولا حديث ولا تقليدي وطليعي.
المحاكاة اكتشفها أرسطو، ولم يؤسسها، هو اكتشف قانوناً مثلما اكتشف نيوتن الجاذبية، ومثلما اكتشف سيبويه قانون قواعد اللغة العربية، ومثلما اكتشف انشتاين النسبية، هذه القوانين الكونية لا تخضع لمعايير التاريخ قِدماً وحداثة، في مقابل المدارس التي يؤسسها بشرٌ، مثل: المسرح الملحمي، الوجودية، الدادية، السريالية، العبثية، الكاسيكية، الرومانسية، البنيوية، التفكيكية...إلخ.
هناك فرق بين الاكتشاف والتأسيس، الأول لا يجري عليه القدم والحداثة، أما الثاني فيجريان عليه، لهذا بريخت بمسرحه الملحمي لم (يكسر) قواعد أرسطو، فأنّى له أن يكسر قانوناً كونياً؟!!، بقدر ما أنشأ مدرسة موازية ليس غير، الدراما الأرسطية مازالت فاعلة حتى اليوم، فـ90 % من أفلام هوليوود (الدرامية) قائمة على نظرية المحاكاة بدقة متناهية، لأن الكاتب الهوليوودي يعرف لو أخل بقواعد الدراما التي اكتشفها أرسطو قبل 2400 سنة، سقط عمله تماماً.