د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لا يدري أهو تغيرٌ في المسار أم هروبٌ من السائد أم إنقاذٌ للعقل والوجدان من العثار النفسي الذي صار لازمةً للخبر والرأي والتغريدة والشارع والجلسات الخاصة والمنابر العامة؛ فاللغةُ صاخبة، والحوار متوترٌ، والناسُ غضبى؛ ممَّ؟ من كل شيءٍ ولأيّ شيءٍ ودون شيء.
** لم يعد يتسمرُ أمام نشرة أخبارٍ أو برنامج حوار، ونأى عن متابعاته الرياضية والاقتصادية والاجتماعية إلا ما يصله قسرًا من مجموعات أصدقائه، وأحسَّ بجمالِ الجهل فوق لذة التجاهل، وركز اهتمامَه - خارج وقت أسرته وعمله - لمُدخَلين جديدين يلتقيان في المدار الثقافيِّ الهادئ؛ فعبر «اليوتيوب» تابع ندواتٍ ومحاضرات، ومن خلال المحطات «المدفوعة» بات ذا درايةٍ بجديد الأفلام والمسلسلات، وصار لهذه وتلك ساعاتٌ من يومه؛ فقبل المنام محاضرةٌ في شؤون الكون والحياة والتأريخ والفلسفة، وخلال فراغه «فيلم» أو حلقةٌ من مسلسل.
** أراح ذهنَه وبدنَه وضميرَه، ولم يرَ أنه فَقد أو افتُقد، ووجد نفسهَ غير معنيٍ بما يدور ويُدار؛ «فما سيكون سيكون» - كما منطوق المثل الغربي الذائع- وصار يقارن بين ثقافتي العمل الأميركية والفرنسية بمشاهدته مسلسل «إميلي في باريس»، واطَّلع على التأريخ البريطانيّ المعاصر بمتابعة مسلسل «التاج» في مواسمه الأربعة وحلقاته الأربعين، وتداخل مع دقائق لعبة العقل المتقد في مسلسل «مناورة ملكة الشطرنج»، واقترب من عوالم «تشرشل» و»كاسترو» و»مالكوم إكس» و»بيليه» و»مايكل جوردن»، و»غيتا فوغات»، والقائمة تطول.
** وبموازاتها وجد دروسًا مسجلةً للشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب «أضواء البيان» وندوةً عن حياته، وقد قابله فتىً، وحياة الشيخ عطية محمد سالم وهو معجبٌ بأحاديثه، وعرف أسماءً ملهِمةً في تقنيات البث الرقمي، ومنهم: الدكتور المؤرخ أحمد بن يوسف الدعيج بعقلانيته، والشيخ المهندس عبدالله العجيري بأفقه، والدكتور نضال قسُّوم بعلميته، والأستاذ يوسف حسين بمعارفه، وغيرُهم بغيرها، وحسب أنه استوفى فأوفى ولم يبخس ولم ييأس، وغبط أصدقاءَ لا تعنيهم المجموعات، ولا يَحنُون رؤوسهم للشاشات؛ فظلَت أجهزتُهم للوصل لا للفصل.
** سعد قريبًا بصحبة ثلاثة كتبٍ مترجمةٍ؛ (يوميات بائع مكتبة: شون بيثل - دار المدى 2020م/ أن تجدَ الحبَّ في مكتبة: فيرونيكا هنري- دار شفق 2019م/ مكتبة ساحة الأعشاب: إيريك دو كيرميل - المركز الثقافي العربي 2019م)، واستعاد بها نظرية أبي نواس: «ألا فاسقني وقل لي»؛ فبين الأيدي كتبٌ تحكي عن الكتب، لتلتقي متعة القراءة في كتابٍ عن كتابٍ نلمسُه ونحسُه ونتنفسُه؛ فأيُّ جمالٍ فوق هذا؟
** بلغْنا مرحلةً تستفزنا فيه تغريدة، وتؤرقنا مباراة، ونؤجر أذهاننا لجدلٍ مؤدلج ورأيٍ مبرمج وصخبٍ مدلج، وفي منهح البدائل الذي يُوصي به عارفيه ما يُسمنُ ويُغني، ليس في هذا الشأن وحده بل في كل شؤون الحياة؛ فلكلِّ مشكلةٍ بدائلُها ولا يوجد دربٌ مسدود.
** الارتهانُ نهاية.