د. محمد بن إبراهيم الملحم
استدعاني مدير المدرسة الثانوية من الفصل أثناء الدرس، فاتجهت إلى مكتبه متسائلا ما الذي استدعاني لأجله بهذه الطريقة وفي هذا الوقت؟ فدخلت مكتبه وسلَّمت فلم يرد بل فاجأني بنبرة حادة لم أعتدها منه قائلا جملة واحدة فقطـ: «ماذا فعلت؟» قلت له لم أفعل شيئا!! فأعادها علي بنبرة أعلى وأشد وأنا أجيب لم أفعل شيئا! وقد أخذ مني الذعر كل مأخذ، فأنا الطالب المجتهد وأنا من يقدم الحفلات أو يقرأ القرآن عند حضور ضيف أو محاضرة أو حفلة مدرسية، وأنا من أشارك في الأنشطة والإذاعة والرحلات وعلاقتي بالمعلمين والمدير علاقة ثقة وصداقة تقريباً أكثر منها علاقة طالب بمعلمين ومدير!
دارت برأسي مليون فكرة كلها تتساءل حول أي وشاية مزورة وضعتني في هذا الموقف، وأي حاسد لفَّق لي ما يجعل المدير يقف مني هذا الموقف الغريب جداً! وفي وسط دوامة الحيرة والسؤال المرعب والجواب المتحير بملامح وجه خائف مذعور تغيرت نبرته فجأة قائلا بكل لطف: اجلس فقد اخترتك لتمثل المدرسة في رحلة دولية إلى الصين.. لم أدر أضحك أو أبكي أو أنفجر أو أنقض عليه وهو مني بمثابة الأب والأخ الأكبر.
عندما يكتب الإنسان عن شخصية من الشخصيات التي مر بها في بدايات شبابه حيث تعرفه على مرحلة جديدة من الحياة بتفاعلاتها ومتغيراتها وعلاقاتها فإنه يتحير ماذا يكتب وأي باب منه يدخل، ذلك لأن الأثر يكون عادة عميقا وممتدا عبر الزمن ولا يمكن مقارنته بأي أثر آخر في المراحل اللاحقة، والأستاذ والمربي الكريم حمد بن أحمد البوعلي عرفته بين 1978 - 980 م مديرا لمدرستي الثانوية التي مع أن اسمها الرسمي «ثانوية الهفوف» إلا أنها اشتهرت باسمه، حيث كان الطلاب والناس أيضاً يسمونها «ثانوية البوعلي»، وهذه الحقيقة وحدها تنبئك عما تعنيه المدرسة لهذا الرجل التربوي الفاضل، فهو متمازج معها وهي بالنسبة له بيته الثاني ومن فيها هم أهم علاقاته ودائرته التي يتحرك فيها، وعلاقته بهم علاقة الأب والأخ وليست علاقة المدير والمنصب.
كانت المدرسة برعايته تحقق نجاحات في أكثر من مجال التدريس أو الأنشطة اللاصفية، والتي كانت مجاله الرحب لجعل المدرسة مكانا محببا للطلاب، ولا يمكنك تصور ذلك إلا إذا كنت وسط هذا الجو المفعم بحسن العلاقة وسهولتها ويسرها وجمالها، خاصة فيما بين «مدير» المدرسة وطلابها وهو أمر في ذلك الوقت في السبعينات والثمانينات الميلادية لم يكن القاعدة والتي كانت: المدير الشخصية القوية الذي يصعب حتى الحديث معه أو الوصول إليه أحيانا، بل كان هذا الرجل سهلا متاحا لكل طالب وقريبا من كل أحد، ومع ذلك كان حازما حين الحزم صارما حين الحاجة. لقد قدم لي شخصيا وفي وقت مبكر من حياتي درسا في كسر الصورة النمطية الموروثة من فلسفة السيادة والسلطة بالفجوة بين الرئيس والمرؤوس في إطار الشدة والصعوبة والقسوة والجفاف، فتعلمت منه أنك يمكن أيضاً أن تفرض احترام الآخرين لك في ظل معاملتهم بحسن العلاقة وبسط الوجه والبشاشة وطيب القلب، وهو فن لا يتقنه أي أحد ويحتاج إلى المزاوجة فيما بينه وبين صيغة الحزم والضبط حينما يتطلبها الموقف.
الكاريزما الشخصية للأستاذ حمد البوعلي كمدير تفرض عليك احترامه ومحبته وذلك متنوع بتنوع الأشخاص والمواقف، ولعل الأقصوصة القصيرة التي استفتحت بها تعبر عن هذه الكاريزما وتعبر أيضاً عن جو هذه المدرسة الجميلة، هذا المدير المبدع يتحدث في جولاته مع هذا ويمازح هذا ويسأل عن هذا ويستفسر من ذاك، وتتعجب منه عندما يمسك الميكرفون ليتحدث، فتستمع إلى طلاوة الحديث وسبك الكلام وحسن المخرج وسلامة اللغة وجمال الأسلوب، بالنسبة لي كانت هذه اللحظة هي أشد ما يأسرني في شخصية هذا الرجل، فهو متحدث من الطراز الأول ولذلك كان الطلاب يصغون إليه بأفئدتهم قبل آذانهم. ولم يكن يقتصر في قرب علاقته بطلابه ضمن المدرسة بل هو معهم حتى في الرحلات، إلى مزرعة من المزارع أو إلى مدينة من مدن المملكة، فيشاركهم مرحهم وبهجتهم في حضور غير رسمي تستمر فيه متعتهم وتغيير الجو في ظل وجوده بلا حرج، وبالنسبة لي شخصيا فقد استمرت العلاقة خارج إطار المدرسة بل وأثناء دراستي الجامعية، فالكاريزما الطيبة والروح الجميلة تفرض نفسها، ثم لتستمر العلاقة به بعد دخولي مجال العمل الحكومي وإلى تقاعدي منه ، وعلى الرغم من أني كنت أظن هذا شأنا خاصا بي إلا أني شهدت كثيرين من رفقاء الدراسة يقدمون نفس الرواية، لا شك أن هذا النموذج جدير بالاحتذاء، فمدير المدرسة هو الأب الثاني الذي يجب أن يتمثل هذا الدور في كل مدارسنا بالمملكة، نموذج أرويه لكم راجيا أن يتكرر.