أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ممَّا لم يكنْ مُسَلَّماً به عند أكْثرِ باحثي هذا العصر ومؤلفيه: هو وجود منهج لِسمْعِيَّاتٍ؛ أي التي مصدرها ما سُمِع من الكتاب، أو من السُّنَّة عن طريق الْمُخْبِرِ الصادِقين؛ فإنْ معناه: إيمانُ الفرد بها إيماناً دون بحث عقلي، ومما أجزمُ عليه وأُؤكد القول به تقرباً إلى الواحد الأول جلَّ شأنه يوم فقرنا إليه: هو ضرورة هذا المنهج في تلقي السمعيات، وأقول ضرورته، لا وجوده وحسب؛ وهو رأي لا نعجز عن دعمه في أي وقت وبأي مكان.. أما الذين ينازعون في التَّسليم بهذا المنهج فآفاتهم كثيرة منها: أنهم لم يعرفوا دور العقل في تلقي الأخبار والأوامر والنواهي السمعية، وأنهم غير أصيلين في فلسفاتهم؛ إذْ يجعلون دور السمع قانوناً في مصادر المعرفة، وأنهم تأثروا بشبه من يقول: إنَّ السمعيات أكثرها ظنيٌّ: إما لنزاعٍ في ثبوتها، أو لنزاعٍ في دلالتها بحكم ما تضافر على السنة النبوية بوجه خاص من معاوِل هدم نحتها من كل جانب.. وأما جهلهم بدور العقل في تلقي الأخبار والأوامر والنواهي السمعية؛ فلأنهم استخدموا طاقاتهم العقلية في رد الخبر: إمَّا بتأويل دلالته، أو التشكيك في ثبوته عن الشارع، فقالوا: العقل هو الحكم على هذه النصوص، فما قبله فاقبله، ومارده فارْدُده، وهو قانون أصَّله (الرَّازِي)، و(أبو حامد الغَزالِي)، و(أبو المعالي الجُويني)، وغيرهم وغيرهم.. قال (الجويني): ((إنَّ وجود الباري تعالى وحياته وإن له كلاماً صدقاً لا يثبته سمع؛ فأما من أحاط بكلام صدق ونظر بعد في جواز الرؤية وفي خلق الأفعال وأحكام القدرة مما يقع في هذا الفن بعد ثبوت مستند السمعيات لا يمنع اشتراك السمع والعقل فيه)).. انظر كتاب (الجويني) للدكتورة (فوقية حسن محمد حسن) ضمن سلسلة أعلام العرب ص 134 - 144 عن كتاب البرهان.
قال أبو عبد الرحمن: إذا ثبت مستند السمعيات: لم يجز للعقل أنْ ينظر في جواز ما أثبته السمع أو عدمه، ويمتنع اشتراك السمع والعقل في ذلك النظر، على الصيغة التي ذكرها (الجويني) عفا الله عنه فما جاز للعقل قط للأمور التي سأوضحها لاحقاً بإذن الله تعالى أنْ يكون حاكماً، والسمعي الذي ثبت مستنده محكوماً عليه.. وقد يقال: مات (الغزالي)، و(الجويني)، و(الرازي)، و(الباقلاني)، و(الشهرستاني)، وغيرهم من أهل ذلك القانون الخاطىءِ، وكفانا مؤونة تزييفه الإمام (ابن تيمية) صاحب (العقل والنقل) و(نقض المنطق)، و(الرد على المنطقيين)؛ فما كلفنا بشيءٍ نزعت فائدته.
قال أبو عبد الرحمن: إنه وُجِدَ من يُغذي كلام أولئك الذين ردَّ عليهم (ابن تيمية)، ويحتج به ويضيف إليه: شعوذة المستشرقين، ويطعمه ببعض آراء الفلسفة الغربية المعاصرة على أنه من بنات أفكاره، كما فعل (القصيمي) في كتابه (العالَمُ ليس عقل)، وأيضاً فإنَّ مادة الجدل في (العقل والنقل) تحوَّلت إلى موضوعٍ جديد، أو بالأصح إلى موضوعٍ أرحب؛ فكانوا في السابق يخوضون في مسألة: وجود الله وقدمه، وحدوث العالَم، وثبوت الصفات أو نفيها، ويفتتون بجانبها مسألة العقل والنقل هل يتعارضان، أم يتفقان؟ وما الحيلة إذا تعارضا؟.. أما اليوم: فكان الأفق أوسع، ولم يعد البحث قاصراً على القديم والحادث، والممكن الوجود، والواجب الوجود؛ بل الأمر تقديس للعقل مطلق، وتشكيك في المسموع في كل ما يقال: انَّ العلم، أو الطب، أو الكشف الكوني يعارضه، أو كشف كل ذلك أو بعضه عن عدم صحته أو ثبوته، أو كشفت الأيام عن زيفه.. و(القصيمي) مثلاً يذكر: أنَّ المسلمين يلقبون الْمُحَدِّث بـ(الحافظ)، ويسمون الله (الحافظ)، ولكنهم لا يسمونه: العقل، أو المفكر.. ولا يسمون: عبد العاقل أو عبد المفكر، ويستدل بهذه الشعوذة على أنَّ الإسلام يُلغي قداسة العقل، ثم يقرر هو بدوره ضرورة تحكيم العقل في كل النصوص؛ فلولا أنَّ الموضوع إذن أصبح أكثر طراوة من ذي قبل، وأنه سيكون لنا رأي أصيل في الموضوع إياه رغم استفادتنا مما كتبه ابن تيمية في العقل والنقل وما ألف في المنطق وعلم المِلل والنحل والآراء الفلسفية ما كنت لأكلف بهذه الدراسة.
قال أبو عبد الرحمن: أعودُ إلى ما قلته عن جهل هؤلاء بدور العقل في تلقى النصوص، وإذا تقرر: عدم جواز رد النص إذا لم يرتح له العقل كمنهج للتلقي نقرر أنَّ دور العقل: هو دور الفهم، والتكيف مع النص، ولا بدع في ذلك إذا كان ما في أخبار الله وأخبار الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم- من حديث عن المعاد والنشأتين وصفات الله تعالى ... إلخ هي من الأشياء التي يقصر العقل عن إدراكها بأكثر مما أوضحه الشارع، لا أنَّ العقل ينكرها، ولا يقال عن كل ما لا يدركه العقل: أنَّ العقل يعارضه، ولكن كل ما فهمه وأدركه ولم يرتح إليه: يجوز أنْ يقال إنه عارضه بغض النظر عن التماس ما هو الصواب: أبجانب النص المثبت، أو العقل النافي؟.. وكل ما في القرآن والسنة من نصوص تشيد بالعقل والتفكر والاعتبار: ليس معناها معارضة السمع الثابت مستنده؛ بل معناها الفهم، فهم النصوص، وفهم وجهة دلالتها.. وتعقل أحكامها المستنبطة منها.. والتعقل والتفكر والاعتبار في دلائل صدق الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ووجود الله ووحدانيته.. ووو.. مما جعل الشارع العقل آية له، من النصوص المخاطبة والموجهة والمصححة للعقل.. أما التدليل على جواز استعمال العقل في تلقيه النصوص بالمعنى الأخير وخطأ التلقي بالمعنى السابق؛ فسيأتي في حينه إنْ شاءَ لله تعالى.
قال أبو عبد الرحمن: وأما أنهم غير أصيلين في تفكيرهم؛ فلأنهم استحيوا آراءَ فلاسفة المسلمين السابقين، وأولئك بنوا على فلسفة يونانية ليس عندها وحي إلهي حتى تضع له رتبة بين مصادر المعرفة المتعارف عليها.. وإلى هذا الحين أجد الحاجة ماسة إلى إلمامة يسيرة عن مصادر المعرفة: التي تدرك بها الأشياء في حقائقها وطبائعها، واستحالتها أو إمكانها، وحسنها أو قبحها، إلى آخر ما يسمى علماً ومعرفة.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين