بكري عساس
لابد من الإشارة إلى أن الطب قد تطور كثيراً على يد العلماء المسلمين ليصبح واحداً من أوسع مجالات العلوم التي تهتم بصحة الإنسان، والإسهامات المقدمة غير مسبوقة شملت علاج الأمراض وابتكار عقاقير طبية وغيرها. روى ابن أبي أُصَيْبِعَةَ في كتابِهِ: (عيونِ الأنباء في طبقات الأطبَّاء) قصةً عجيبة عن (صالح بن بَهْدَلَةَ) أحدِ أطبّاء المسلمين العظماء، خُلاصتُها أنَّه قد ورَدَ إلى أمير المؤمنين الرشيد نَعْيُ ابن عمِّه إبراهيم بن صالح، فلمّا غُسِّلَ وكُفِّنَ وجَلَسَ الرشيدُ للعزاء قبل دفنه صاح فيه صالحُ بن بهدلة - وكان قد فحَصَ الرجلَ قبلَ إعلان وفاته بمدة يسيرة-: يا أمير المؤمنين لا تدفن ابْنَ عمِّك حياً! أَدْخلْني إليه وسترى!
فلما دخلَ صالحٌ على إبراهيم وهو في كَفَنِهِ وَخَزَهَ بإبرة بين ظُفْرِ إبهامِ يده اليسرى ولحمِه فجذب إبراهيمُ يده! فقال الطبيب صالح: أرأيتَ يا أمير المؤمنين؟ ثم إنّه ظلَّ ينفُخُ في فمه وأنفه نحو ثلث ساعة، تارةً بفمه وتارةً بمنفاخ، فلم يلبثْ إبراهيمُ أن اضطربَ جسدُهُ ثم عطسَ ثم جلس!
وهكذا كان هذا الطبيب المسلم أول من ابتكر الإنعاش الرئويَّ وأنقذَ بذلك الرجلَ من أن يُدفن حياً!
ليستْ هذه القصة النادرة سوى شاهد واحد من مئات الشواهد على (القفَزَاتِ) العُظمى التي حقَّقها المسلمون في المجال الطبيِّ إبَّان ازدهار الحضارة الإسلامية.
تلكَ (القفزاتُ) التي كانتْ تتكئُ على (رؤية إسلامية) تعرفُ قيمةَ الطبِّ، وتحثُّ عليه، وحَسْبُنا قولُ الإمام الشافعيِّ: «لا أعلمُ علماً بعد الحلال والحرام أنبلَ من الطبِّ». ولم يكن الطبُّ في الحضارة الإسلامية كَلأً مُباحاً، بل كان علماً مصونَ الجانب، مهيبَ الحِمى، وقد كان للأطباء في زمن الخليفة العباسيِّ المقتدرِ (امتحانٌ)، فلا يتصدرُ للتطبيب إلا من يجوزُهُ وينجَحُ فيه ويحصُلُ على ترخيصٍ، وقد انتدبَ الخليفةُ المقتدِرُ الطبيبَ البارعَ ثابتَ بن قُرَّةَ لإجراء هذه الاختبارات، وذلك بعد أن ثبت لديه موت مريض بسبب خطأ طبيٍّ.
وقد أفضتْ العنايةُ بالطبِّ نظرياً وعملياً إلى مبتكرات إسلامية طبية يضيق الوقتُ عن حصرها، أذكر منها:
الجراحة بأنواعها سبق إليها المسلمون، وقد ألحَّ الزهراويُّ في القرن الخامس الهجريِّ على درس التشريح، على حين أنَّ أول عملية تشريح أُجريتْ في أوروبا كانتْ في أواخر القرن التاسع الهجريّ!
وابتكر الزهراويُّ أكثر من مئتيْ آلة جراحية. ووضعَ أُسس علم المناظير، وقامَ بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبُهُ المنظارَ، وتعرّض لحصاة الكُلى، وشرح كيفيةَ استخراجها، وتوصلَ إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور!
وابتكرَ الرازيُّ الخيوطَ الجراحية المصنوعة من أمعاء الحيوانات. ومارس النّساءُ الطبَّ، وقد كانت في بلاط أبي يوسف المنصور طبيبتان من عائلة ابن زُهر. وما لم يُقلْ أضعافُ ما قيل.