د. عبدالحق عزوزي
رحّبت أوروبا بفوز بايدن الرئيس الأمريكي الجديد بعد أربع سنوات من المشاكل مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ويأتي هذا الترحيب في ظل تهديدات لمشروع الرئيس الفرنسي ماكرون الذي نادى وطالب في السنين والأشهر الماضية بالاستقلال الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي. ولا جرم أن رؤية ماكرون كانت تستمد قوتها من هجوم ترامب المستمر على أوروبا. أما اليوم فإن الأمور ستتغير بأكملها.
وفي مقابلة مطولة أُجريت مع ماكرون مؤخرًا تساءل الرئيس الفرنسي: «هل يؤدي تغيير الإدارة الأمريكية إلى تخلي الأوروبيين عن الجهود المبذولة لتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي الإستراتيجي؟». وشرح ماكرون استراتيجيته، التي تهدف إلى أن تكون أوروبا قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، شرحًا مستفيضًا. وفي حين أن ماكرون وصف الولايات المتحدة بأنها من «الحلفاء التاريخيين» فقد أبرز أيضًا الاختلافات الثقافية والجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، وأوضح أن أوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الاستراتيجية «لنفسها»، و»التصدي للاحتكار الصيني الأمريكي المزدوج». وقد ظل الرئيس الفرنسي سنوات عدة يردد كلماته التي مفادها أن فرنسا الأكثر قوة لن تتحقق سوى من خلال أن تكون أوروبا أكثر قوة، وهو الأمر الذي ظل عقودًا جزءًا من بصمة فرنسا الوراثية السياسية. وظهر موقف الإليزيه تجاه حلف الناتو - على سبيل المثال - متناقضًا منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف في عام 1966، وهو القرار الذي اتخذ نقيضه تمامًا بعد 40 عامًا فحسب.
وإذا بقينا في تجربة الناتو فلا أخال أحدًا من الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، أحد الفاعلين الرئيسيين في أوروبا، ولا دول أوروبا الشرقية، ستريد زوال هذا الحلف الأطلسي أو خروج أمريكا منه. فالساكنة التي يساهم الحلف في وضع مظلة وقائية لها يقرب عددها 900 مليون نسمة، أي مجموعة ساكنة دول أعضائه. كما أن عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجومات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك. كما أن دولاً كدول أوروبا الوسطى والشرقية لا تهتم كثيرًا بما يقع في جنوب المتوسط أكثر من تخوفها من روسيا بعد حرب أوكرانيا وضم القرم؛ وتسعى جاهدة إلى أن يبقى الناتو بجانبهم.
وقد لاحظ المتتبعون الاستراتيجيون تبادل الأفكار المضادة التي كانت لا تخرج إلى العلن فيما مضى، بين ماكرون ووزيرة الدفاع الألمانية أنجريت كرامب كارينباور، التي دعت في مقال لها، نُشر في صحيفة «بولتيكو» الأمريكية، إلى «ضرورة وضع حد لأوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: لن يتمكن الأوروبيون من استبدال دور أمريكا الحاسم بوصفها موفرة للأمن»، وهو الرأي الذي أعرب ماكرون عن اختلافه الشديد معه فيما بعد.
وما أسميه بالحكمة الاستراتيجية هي ما يعطي للحلف قوته، وهي تكمن في سياسة الردع الإيجابي، وعدم التصعيد العسكري مع روسيا، وعدم إقبار الاتفاق المؤسس بين روسيا والحلف سنة 1997.
ولكن مع ذلك قام الحلف بوضع قوات مراقبة دائمة في دول أوروبا الشرقية في ستة هياكل (Nato Force Integration Units)، وهيكلَين آخرَين في هنغاريا وسلوفانيا. كما أن مبدأ مشروع النشر السريع للقوات (RAP) تم تبنيه من الحلف الأطلسي زيادة على القوات ذات التدخل السريع (VJTF) التي تستطيع التدخل داخل دول الحلف أو خارجه، وبسرعة فائقة.
في سنة 2008 كان مجموع القوات العسكرية التي كانت منتشرة مباشرة تحت مظلة الحلف الأطلسي 168000 عسكري، وانتقص العدد ليصل إلى 16000؛ لأن قوة أي حلف ليست بقوة عدد جيوشه المنتشرة، وإنما بقوة تحالف دوله، وبقوة ونوعية الأسلحة المستعملة، وخبرته الاستراتيجية والاستخباراتية والتنظيمية والتدخلية.. فلم نعد في الحروب القديمة حيث قوة العدو تحسب بعدد الخيالة، وإنما بقوة ودقة السلاح المستعمل.. وهاته الاستراتيجية للتقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط أُعطيت للمسؤول الثاني في الحلف القائد الأعلى المكلف بالتغيير (SACT)، ومقره ليس في بروكسيل وإنما في نورفولك (NORFOLK) بالولايات المتحدة الأمريكية. وهاته الإشارة تبيّن لنا أن الحلف الأوروبي العسكري لا يمكن أن يستقيم بدون أمريكا، وأن فكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي جزء من الوهم المتكرر.