أصبحت أوروبا قائدةً للعالم من حيثُ التطورُ الماديّ والتنميةُ وتنظيم الدولة منذ القرن السابع عشر الميلادي، حين تحولت النهضةُ من مجالها الفكري المثالي إلى الجانب التطبيقي، وتوالت الاكتشافات العلميةُ والجغرافيةُ وبدأ ما يُسمى بعصر الأنوار...وكان هذا التقدم المادي مفيداً للبشرية، ونافعاً لها، ولا تزال البشرية تجني ثماره ... ولكنّ هذا التقدم الماديّ بنى لدى العقل الغربي قناعةً راسخةً بمركزيته العالمية، وأنه وحده من يصنع التاريخَ، ويصل إلى الحقيقة، ليس في العلوم الطبيعية وحدها فحسب، بل وفي القيم والأخلاق والفلسفة والفكر ... ونتيجة ذلك أن ازدرى الأنماط الثقافية والفكرية لغيرَه، ونظر إلى نتاجِ كثيرٍ من نتاج الفكرِ العالميِ بعين المتنقّص لما فيهِ، والمتتبع لعيوبِه وهذا ما يفسّر لنا كثيراً من التعصّب الحضاري والديني الذي حدثَ أيام الكشوفاتِ الجغرافيةِ، وما تبعه من تدميرِ كثيرٍ من الإرثِ الثقافيّ العالمي بدءاً من أمريكا الجنوبية، وتراث حضاراتها القديمة كالأزتك والأنكا الذي دمّره الأسبانُ والبرتغاليون، وانتهاءً بإفريقيا التي ظُلمت كثيراً في ثقافتها، وخاصةً من قبل فرنسا ... وما زالت هذه القارةُ السمراءُ الجميلةُ مظلومةً في مواردِها ومقدراتِ شعوبها وحقوقِهم إلى اليوم.. وهذا له حديثٌ آخر مؤلمٌ.
إن الإيمانَ بأن أوروبا ومعها أمريكا هي مركزُ العالم كلّه - جعل الأطرافَ الجغرافيةَ والبلدان الأخرى، والثقافات الأخرى غيرَ مهمةٍ في نظر من يؤمن بهذه المركزية؛ ولذا فإن زوال الثقافات الأخرى من العالم في نظرِ بعض هؤلاء لن يضر كثيراً، بل قد يؤمنُ بعضُ المتعصبين بأنه يجب أن يكون. ولكنّ ظهورَ بعض الحركاتِ الفلسفية والثقافية المتجددة في الغرب نفسِه بعد الحرب العالمية الثانية أعطى شيئاً من الحمايةِ لتلك الثقافات مؤخراً.
وهذه المشكلةُ في المركزيةِ الأوروبيةِ هي نفسُها السببُ الذي يجعل بعض الباحثين أو السياسيين لا يؤمن بدورِ الحضارةِ الإسلاميةِ في صناعةِ الحضارةِ الإنسانية، وأنه لا فضلَ لها على البشر...وهي الفكرةُ التي أثّرت على الغربِ في التعاطي مع الإسلامِ، والتعامل معه على أنه دين الآخر ، ودين المهاجر القادم من وراء البحار ...وأنه لا ينتمي إلى المركزية الأوروبية؛ فله أخلاقٌ مختلفةٌ في كل شيءٍ، وقيمٌ مختلفةٌ في كلّ شيء وهكذا؛ ولذا يجب إبعاده ...بل يجب عند بعضهم مصادرته قبل أن يفهموا طبيعته وحقيقته.
وأزيد القارئ علماً بأن هذه الفكرةَ حول المركزية هي التي سيطرت على بعض العلماء في تعاملهم من التاريخِ الإسلاميّ كذلك ، ومع بعضِ المترجمين في ترجمتِهم للقرآنِ الكريم، فلا يرجعون إلى كتبِ التفسير العربية، ولا يقيمون اعتباراً لفهم المسلمين لتاريخهم؛ لأنهّم في اعتقادِهم ليسوا أهل منهج علميّ؛ فهم لا ينتمون إلى المنهجيةِ الأوروبيةِ الصارمةِ...فلا بدّ إذن من نقد النص القرآني نقداً معتمداً على دراسات تتعلق بمنهجية التوراة والإنجيل، وإن كانت مختلفةً عن منهج العلوم الإسلامية ...لأن المركزية الأوروبية ترى نفسها أكثر تطوراً من العالمِ كلّه. وأولُ ترجمة تمت للقرآن الكريم في الغرب كانت من قبل المترجم الإنجليزي روبرت الكتوني المسمى باللاتينية ( Roberus Ketenenisis ) سنة 1143 م ولم يكن الهدف منها معرفة القرآن والاطلاع على ما فيه، بل كان هدفها تنصير المسلمين، وجذبهم نحو هذه المركزية ، ولذا كان عنوانها باللاتينية هو: ( كتاب قانون محمد النبي المزيّف ).
وهذا ما يفسّر لك قوةَ ردَّ الفعل النفسيّ عند اعتناق الأوروبيين للديانات الأخرى وخاصةً الإسلام، وهو أن هؤلاء نشأوا على أنّهم مركز العالم وقوادُه الفكريون ... ثم يكتشفون أن هناك شيئاً مختلفاً، والإسلام أكثرالديانات قبولاً فيدخل أحدُهم فيه هارباً من النمطية المركزية القديمة إلى أفقٍ جديد وعالمٍ فيه رؤىً جديدةً لا يعرفُها، ونظرةً ذات أبعادٍ جديدةٍ لهذا العالم ، مع ما فيه من المعاني الإنسانية المطلوبة ...
ومشكلةُ المركزية لا تزال مستمرةً في عصر العولمة الثقافية، بل امتدت إلى مركزيةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ ولكنها اليوم أمريكية أكثر منها أوروبية حتى صار الأوروبيون أنفسهم قلقين من هذه المركزية الأمريكية في السياسة والفكر والاقتصاد ...ووقفوا معنا على جانب الدائرة وليس في وسطها كما كانوا يوماً ما، وكما كنا من قبلهم.
وهذه المركزيةُ استغلها بعض المسلمين لتطوير فكرة الصراع الحتمي بين الغرب والإسلام، للحفاظ على تماسك رؤيتهم الإسلامية، وإقناع كثيرٍ من الشباب بذلك... ومع كل ذلك العبء الفكري الثقيل مازال الذين يتمتعون بفم إنسانيّ راقٍ يدركون قيمة الحضارات الأخرى في جوانب عديدة... وقد بدأ حراكٌ ثقافيٌّ عالميٌّ يقاوم هذه العولمة الم ركزية.
ومن عجائب الزمان أن هذه الحركةَ التي بدأت في الغرب لتقدير التراثِ الإنسانيّ ومنحِه قيمته الحقيقية يرافقها ظهور تيارٍ من الأمركةِ يمتدّ في العالم العربي والإسلامي، بل وصل الأمر ببعض المتأثرين من الشباب ممن يغلب عليهم عدمُ الدراية والفهم للثقافات الأخرى أن اعتقدوا أن أمريكا يجبُ أن تكون القدوةَ في كل شيءٍ في اللغةِ والقيمِ والثقافةِ والفكر ... حتى الطعامِ ...مع أن مركزية الغذاء هذه زادت أمراضه المتعبةَ كالسكرِ وضغطِ الدم والسِّمن ... وفي الوقت الذي يفهم فيه بعضُنا هذا الفهمَ المسلوبَ بدأت تنطلقُ في أمريكا نفسِها تياراتٌ مختلفةٌ من الأفكار، وبدأت تتوالدُ ثقافاتٌ ترفضُ المركزيةَ اللغويةَ والفكريةَ، وتتقدم من الهامشِ لتزحفَ نحو الوسطِ كالثقافة اللاتينية الأمريكية وغيرها..
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com