(أهلاً بكم في (...) للغة العربية اضغط واحد ، للغة الإنجليزية اضغط اثنان، (.....) للمواعيد اضغط واحد ، للإلغاء اضغط اثنان للتعديل اضغط ثلاثة للخدمات الخاصة اضغط أربعة،... شكرا للحجز في (....) اضغط واحد وللـ اضغط اثنان وللعودة للقائمة الرئيسة اضغط علامة المربع وللخروج اضغط زر النجمة.
وهكذا تظل تتعامل مع أرقام وأزرار وتسجيلات صوتية محاولا الوصول إلى صوت إنساني للتحدث إليه دون أن تستطيع.
قد يبدو الأمر طبيعيا أو معتادا للبعض، ولجيل الشباب خصوصا ولكنه للمتقدمين في السن هو الجحيم بعينه ، إنها الغربة الكاملة وموت الإنسان بالمطلق والنفي في عالم من الجمادات.
الصوت البشري ليس وسيلة اتصال فقط ، إنه أعمق كثيرا من ذلك إنه حاجتنا إلى سماع أحد ما، والحديث إليه وربما الفضفضة له حتى دون أن نعرفه والاستئناس به ، ومن أجل ذلك كان يُختار لهذه المهنة الأكثر لباقة ومن يمتلكون صوتا عميقا ، ولأن هذا الصوت البشري هو العتبة الأولى نحو هذا الكيان (مستشفى ، بنكا، مؤسسة تجارية ، منشأة خدمية) وغير ذلك ولكن يبدو أن هذه الرفاهية لم تعد متاحة وأن الإنسان مات.
شوارع دون أطفال
في قريتنا البسيطة وربما كل القرى وحتى وقت قريب كنا نشتكي من تواجد الأطفال غير المبرر في الشوارع، لعبهم كرة القدم، جلوسهم تحت الجدران وفي مداخل البيوت ، شغبهم وصياحهم وكنا نشعر أنهم وبدراجاتهم وصخبهم يحدثون نوعا من الفوضى في الحياة ويربكون شوارعنا ، ولكن أين هم الآن ؟ تبدو الشوارع فارغة بالمطلق .
لقد انسحبوا جميعا إلى الداخل ، داخل البيوت ولكن ليس ضمن نطاق العائلة ولا مع بعضهم ولا حتى مع طفولتهم بل نحو عوالمهم الخاصة والبعيدة، منفصلين تماماً عن محيطهم ولعبهم التي كانوا يكدسونها ويقدسونها بل وعن ألعابهم المتوارثة تلك الألعاب التي توارثتها أجيال تلو الأجيال ، وكلها الآن تتلاشى وربما للأبد ، وانقطعت عملية نقلها وتناقلها بين الأجيال ولم يعد للجدات ما يقلنه للأحفاد ولا للأجداد ما يقولونه لأحفادهم وبموت هذه الحكايات تموت الطفولة داخل الأطفال.
قبل عامين أفلست شركة ألعاب أطفال شهيرة وأعلنت حينها السبب عندما قالت (لمن نبيع فلم يعد هناك أطفال) والأطفال لم يعودوا يلعبون .
ولكم أن تتخيلوا فناء عشرات الألعاب الشعبية والحكايات أيضاً والتي توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل حتى وصلت إلينا، إنها أكثر من ألعاب وحكايات ، إنها عالم واسع جدا من الثقافات والأساطير والمعرفة وتفسير العالم بتلك الأدوات، ولكنها الآن تنقطع وكأن الجنس البشري يتوقف هنا ويموت.
ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل إن سنوات الزمالات المدرسية وذكرياتها مهددة بالموت الآن إذا ما استمر التعليم بهذه الوتيرة (وأخاف أن نعتبر ما نفعله الآن إنجازا ونعتمده) وتغلق المدارس , وبغلق الفصول المدرسية سيموت عالم آخر من عوالم الطفولة والزمالات ورفقة العمر ويموت تبعا لذلك داخلنا الإنسان.
المطارات أيضاً ومحطات السفر وتجمعات الغرباء فلم يعد أحد يقطع الوقت مع أحد ولا يقيم جسورا للتواصل والتعارف مع أحد وانصرف كلٌّ نحو شاشة هاتفة منعزلا بالكامل عمن يشاركه المقعد، لقد كنا نوصف بأننا كغرباء جزرا معزولة لكننا الآن الصمت المطلق وكأنه لا أحد هناك.
عالم جريج
أفرط الإنسان في التدمير لهذا الكوكب دون الشعور بفداحة ما يفعل وعدم الوعي باستحالة البديل. وأصبح متعذرا على الكون مجاراة هذا التدمير وإصلاحه أولا بأول ، وتعاني الحياة الآن بكاملها من التعب والعطب، وهو يقول ذلك بطرق عدة ولكن هل من مستمع؟
قارات الجليد الأبدي تذوب الآن ، ودرجة الحرارة الكونية تسجل أرقاما قياسية، (باريس سجلت 42 درجة مئوية لأول مرة هذا العام) وان استمرت في التصاعد فقد يحترق العالم (حرائق استراليا وكاليفورنيا وغابات البرازيل هذا العام) ، وستغرق مدن بكاملها (كادت البندقية أن تغرق بالكامل هذا العام)، وسيعاد رسم الحدود في حال تلاشى الجليد (بين أمريكا وروسيا) مثلا وستنشأ نزاعات جديدة . وستشق طرق ملاحية جديدة (بدأت في شمال روسيا) وسيعاني العالم الجفاف والتصحر في أماكن والفيضانات في أماكن أخرى والبحار تتصحر من ثرواتها السمكية نتيجة الصيد الجائر، ويموت العالم الجميل المخبوء تحت الماء (موت الحيد البركاني في سواحل نيوزيلاندا واستراليا) تحت البحر، باختصار فإن الحياة لم تعد قادرة على ملاحقة هذا التدمير وإصلاحه والأمر أخيرا متروك للإنسان الغافل أو الجاهل أو المستلب من قبل الساسة وقادة الشركات الكبرى التي تشكل عالمها وعالمنا للأسف وفقا لمبدأ الخسارة والربح.
ولعل داء (كورونا) هو آخر صرخة احتجاج من هذا لعالم الجريح لوقف هذا التدمير، ومحاولة إعادة ضبط صناعة الحياة ولكن هل يستمع الإنسان ؟.
كورونا والصرخة الصامتة
وكأن الحياة وعبر فيروس صغير حاولت لفت انتباهنا بأن خللاً ما يحدث في مسيرة الحياة، وعلى العالم التوقف قليلا ومحاولة فهم هذا الخطأ وإصلاحه.. في البدء كانت الصدمة كبيرة والخوف أكثر ، وشعر العالم أن هناك الكثير مما يمكن مراجعته وإصلاحه وإصلاح الحياة التي غدت تنحو نحو الهشاشة والقلق، القلق الذي أصبح سيد العالم ، القلق الآن هو المحرك والباعث على الركض اللا مفسر القلق ومخرجاته هو ما يتصدر نشرات الأخبار.
وتواضع العالم قليلا وأعاد غلق الأبواب والنوافذ، أعاد غلق الحدود والسماوات إلا في حدها الأدنى وفي محاولة تأطير الأسباب وإعادة (أنسنة) العالم لكن ذلك لم يستمر طويلا ، وعبر مارد التقنية والثورة الرقمية تحايل العالم على هذا الوباء ثم نصب جسورا وحفر أنفاقا في الفراغ وأعاد التواصل وبطريقة أكثر قسوة، طرق افتراضية تلغي الإنسان إلا في حده الأدنى وكأن كل الحياة لم توجد من أجله ولكن من اجل المال والمكاسب والصراعات والسياسة، ودخلت (كورونا) نفق الأوراق الانتخابية والصراعات الأممية وسطوة الشركات من أجل المال .
عالم التقنية المعلوماتية (بيل غيتس) يرى انه وفي خلال عامين أو ثلاث سيواجه العالم تهديدا آخر وأكبر، وكأن الحضارة دخلت مرحلة الدفاعات وصدر الحكم على الإنسان بالموت.
المارد يخرج من القمقم
المارد هذه المرة ليس عفريتا من الأساطير ولا قصة من قصص الخيال العلمي، لكنه من صنع أيدينا ، نحن الذين صنعناه وماضون في صناعته وإطلاقه وغدا سيفترسنا .. سيفترس الإنسان
الذكاء الصناعي هو ما اعني، وهو من سيسيطر علينا وعلى العالم وسيعجل بنهاية الإنسان الهش بوضعه الحالي.
أقول وضعه الحال لأنه يجري الآن تشكيل هذا الإنسان الهجين أو ما يعرف باسم (الأنسانوية)*، وهي ذلك التشكل والتكامل الهجين بين الإنسان والآلة ومن خلال برامج الذكاء الصناعي ليتوحدا في نسق واحد , نسق يمزج بين ذكاء الإنسان وذكاء الآلة لتسيير الحياة نسق من المعرفة والإنسان.
وكما اختفى الأطفال وألعابهم، وكما اختفت وتختفي فصول الدراسة ومكاتب العمل والمساعد المنزلي، فسيتخفي وقريبا الطبيب الذي يشخص أمراضنا وسيقوم بذلك (ربوتات) مدججة بالذكاء الصناعي وسيكون تشخيصها أكثر دقة وأسرع إنجازا واقل تكلفة وإنسانية .
وسيتولى مارد الذكاء الصناعي قيادة حياتنا بالكامل (وقد بدأ استخدامه في الحروب المتقدمة بقوة)، والخوف كل الخوف أن يتغول أكثر ليعرف ما نفكر به وما نخبئه وربما بادر إلى تدميرنا قبل التخلص منه وهذا ليس سيناريو مختلقاً لكنه الحقيقة.
والمساعد المنزلي الآن وفي دول متقدمة لم يعد إنسانا لكنه (ربورتا) أو إنسان ذكي.. وعبر الذكاء الصناعي يتم استعادة أطياف الأموات عبر ما يسمى (الهولوقرام) ورأينا ذلك في حفلات (الطنطورة) في العام الماضي.
أجهزة الذكاء الصناعي تعزف الآن وترسم وتكتب الرواية وأي مستقبل ينتظر هؤلاء الملايين من البشر وما الذي سيفعلون إذا تم الاستغناء عنهم ؟ أنا الآن مثلا لم أعد أنا , بل أصبحت تطبيقا رقميا عبر (مباشر) و(ناجز) و(صحتي) و(فرجت) و(تطمن) و(توكلنا) و(تباعد) ..الخ . ولن أكون أنا بصفتي الاعتبارية مريضا يستقبلني المستشفى ما لم أدخل تطبيق (موعد)، لم أعد أكثر من تطبيق رقمي (يا أخي السيستم ما يقبل)، لقد تلاشيت ومت (عند السيستم على الأقل) كانسان وما الذي تبقى من الإنسان؟ .
غربة
وبعد :
سيظل الإنسان حياً غير أن الإنسانية تُمتحن , وما هو الإنسان بدون الإنسانية ؟ إن الإنسان يموت ليس موتا بمعناه الفلسفي (الهدجري)، لكن عبر تشيئه ككائن وتحوله إلى تطبيق رقمي أو مجتمع افتراضي يلتقي ويتصافح مع رفاقه عبر هذه الشاشات والحواسيب والأجهزة الذكية , وعليه مواجهة أحزانه وأفراحه وحدة أو البحث عنها عبر آخرين وعبر إطار الرؤية والملامسة إن وجدت، وعدا ذلك ستسكن الغربة أو الاغتراب مساحات أرواحهم وشعورهم بأنهم خارج الزمن ومن أجل ذلك يذهبون نحو بدائل غير مقنعة ولكن ما من بديل.
والهوة تكبر ولا أحد يدرك مساحات الاغتراب التي تسكن المتقدمين في السن وربما يوماً لن يكون من بديل سوى (قتل الجياد.)**
... ... ...
* (جودث بتلر) من كتاب هل أفضل أيام البشر قادمة؟) لمجموعة من العلماء ترجمة نصير فليح
** تلميحا رواية إنهم يقتلون الجياد للكاتب الأمريكي هوراس ماكوي
** **
- عمرو العامري