في فترة من فترات حياتي كنت ألوذ في الوقت الدافئ الذي أهرب فيه لبرهة قصيرة من مسؤولياتي الكثيرة إلى كتبي. وكان هذا الوقت كفيلا بإعادة شحني وملء طاقتي للعودة للحياة الواقعية التي كثيرا ما كانت - وكحال كل الأمهات - تستنزف جل الطاقة التي أخذتها للتو من مساحتي الخاصة الصغيرة. ومع الأيام كبرت مسؤولياتي وفقدت معها حتى تلك البرهة القصيرة.. وجدت نفسي بعيدة عن نفسي.. فأنا أشعر بالخواء إن طال زمان لم أستفد منه أو على الأقل أستمتع به بحق.. تستفزني الحياة الرتيبة التي يكون جل اهتمامي فيها بروتينيات يومية لا حياة ولا شغف يملؤها.
وقعت بالصدفة على تغريدة فيها إشارة لبعض المقاطع الصوتية في برنامج البودكاست للدكتور «محمد الحاجي» فسمعته بينما أقوم ببعض المهام التي لا تحتاج الى كثير من التركيز. انبهرت بالعمق الذي كنت غائبة عنه.. فأين كنت عنه ! وكيف لمقطع صوتي أن يوصلنا لهذا العمق . ورحت بعدها أبحر في محيط البودكاست مقطعاً صوتياً تلو الآخر.
أصبح البودكاست يرافقني في تفاصيل حياتي.. يرافقني في مطبخي، وفي مشاويري القصيرة بالسيارة وحين المشي بعض ساعات عملي .. وصرت لا أنجز شيئا من المهام الروتينية إلا وصوتٌ في الخلفية يتحدث.
قرأت - بالصدفة أيضاً - تغريدة عن برنامج «سناك بوك» وهو برنامج للأستاذ سعد الدوسري يقدم ملخصات مسموعة لكتب أجنبية مترجمة في كافة المجالات في المال والأعمال والنجاح والتنمية البشرية والصحة وغيرها وكلها تقدّم في أقل من ساعة.. نعم أقل من ساعة . إنه بحق كنز لمن يحبون الكتب الصوتية.
أبحرت كثيراً في عالم الصوتيات وأصبح وقت المهام الروتينية مثمراً ومع تراكمه يترك حصيلة لا يستهان بها من المفردات اللغوية والقصص وملخصات الكتب ووجهات النظر التي تمطرنا بها النخبة من صناع المحتوى القيم بكنوز معرفية ثمينة في شتى المجالات.
كانت صناعة المحتوى في الشبكات الاجتماعية في بدايتها تتناول موضوعات تشبع منها الجمهور واستهلكها أصحاب المحتوى المكرر، بينما اتجه أصحاب المحتوى القيم في الصوتيات لإثراء المستمع بمحتوى شيق قيّم يثري دماغك ويجعل الأفكار الإبداعية تتوافد عليه تباعاً.
العصر الآن للبودكاست وهو في أوج ازدهاره ففي زحمة الانشغالات وارتفاع وتيرة الحياة السريعة التي قد لا يجد فيها من يريد الاستزادة من العلم متسعاً من الوقت للغوص في أعماق كتاب والتمعن في حروفه، قد يحصل على جزء من هذه الفائدة بسماعه للصوتيات القيمة ويكون بالطبع قد فوّت الكثير الكثير إن لم يفعل.
صحيح أن الاستماع لها وتحصيل المعلومات من قبل المستمع لن يكون بذات الجودة مقارنةً بقراءة كتاب بتفرغٍ تام له بالطبع، لأن غالب من يستمع سوف يفعل ذلك بينما يؤدي أعمالاً أخرى في الخلفية مما يؤثر على جودة تركيزه ، فلا شيء أبداً يغني عن دفء كتاب تمسكه بيديك وتستزيد منه وتميز النصوص المميزة منه حتى وإن كان كتابا الكترونيا.
الصوتيات هي المجال الآن لمن لا يملك وقتاً للقراءة ولا يريد النوم في غياهب الجهل، وهي أيضاً الحل لمن يشكو من عسر القراءة أو لا يفضل قراءة المعلومة بل سماعها ، أيضاً هي طريقة للاستفادة من الوقت المهدر، وقد تكون السبيل لزكاة العلم عند المثقفين ممن يمتلكون حصيلة يريدون تمريرها لمن يبحث عنها.
اتسعت سبل الحصول على المعرفة وتنوعت فأضحت أكثر قرباً وإشباعاً للمتلقي، وفي هذه الظروف لا عذر ولا عزاء للجاهل، فمن لا يلحق بالركب يجد نفسه من الأموات في عداد الأحياء.
** **
- إيمان يوسف الحسن