د. مساعد بن سعيد آل بخات
مع إعلان وزارة التعليم قبل قرابة سنة ونصف السنة تقريباً اتخاذها قرار إدخال تدريس علم الفلسفة للطلاب والطالبات في مدارس التعليم العام, وتواكب مع هذا الإعلان ثلاث ردات فِعل مختلفة من قِبل أفراد المجتمع, فئة أولى أيدت هذا القرار، ولها مبرراتها الخاصة بها, وفئة ثانية لم تؤيد هذا القرار، ولها مبرراتها الخاصة بها, وفئة ثالثة يتبادر لذهنها سؤال، هو: ما هي الفلسفة؟ لأنهم لا يعرفون شيئاً عنها.
لذا حرصت في هذا المقال أنْ أُبيّن للقارئ إجابات بعض الأسئلة المهمة التي قد تدور في ذهنه عن علم الفلسفة بحيث تُمكّنه من فهم ما يدور حوله عن أهم قضايا المجتمع، منها (تدريس الفلسفة في مراحل التعليم العام).
ولستُ هنا في هذا المقال أستطيع حصر كل ما يخُص علم الفلسفة في عددٍ محدود من الصفحات, بل لكي أُبيّن للقارئ بعض المنعطفات المهمة في علم الفلسفة؛ لعله يأخذ فكرةً عامة عنها؛ فتتضح له بعض الإجابات عن الأسئلة التي تدور في ذهنه عن علم الفلسفة, وإنْ أراد القارئ التعمق في علم الفلسفة فأمامه كتب علم الفلسفة بكثرة لكي يستزيد منها بشكلٍ أفضل.
لقد استخدِمَ مصطلح الفلسفة منذ قديم الزمان، وبالتحديد منذ العصر الإغريقي، بدءاً من الفيلسوف سقراط (470 - 399 ق. م) حتى وقتنا الحالي. وتغلغل مصطلح الفلسفة في مجتمعات كثيرة، منها: اليونانية, والهندية، والفارسية, والغربية, والإسلامية.. إلخ, وبعض المجتمعات تقبلته وعملت به من خلال تدريسه للطلاب والطالبات, وبعض المجتمعات الأخرى لم تتقبله، بل تصدت له ولكل من يستخدمه حتى وإن كان من أفراد المجتمع أنفسهم.
ومما ينبغي تأكيده هنا أنَّ اهتمامات الفلسفة اختلفت وتدرجت منذ بداية نشأتها حتى عصرنا الحالي؛ فقد حصر سقراط مهمة الفلسفة في دراسة الحياة الأخلاقية, كما ذهب شيشرون إلى أنَّ الفلسفة تبيّن للإنسان قواعد السلوك بتعريف معاني الحق والواجب, والخير والشر, والفضيلة والرذيلة، وما ينبغي أن يتحلى به أو يتخلى عنه. وتوسع نطاق الفلسفة في عهد أفلاطون (أحد رواد النظرية المثالية)، وأرسطو (أحد رواد النظرية الواقعية)؛ لتركز على الكون وكل مناحي الحياة الإنسانية. كما ركزت الفلسفة عند بعض علماء المسلمين، أمثال (ابن سينا وابن رشد والفارابي واخوان الصفا)، بالحديث عن مسائل ميتافيزيقية على حساب مسائل تطبيقية، تُلامس اهتمامات الناس؛ إذ إنهم اعتمدوا على نتائج البرهان لتثبيت الاعتقاد في العقل. واهتمت الفلسفة في العصور الوسطى بالتوفيق بين العقل والنقل، وأيضاً البرهنة على صحة القضايا الدينية. وفي بداية القرن التاسع عشر اعتقد كارل ماركس (أحد رواد النظرية الماركسية) أنَّ مهمة الفلسفة هي العمل على تغيير العالم، وتعديل النظم القائمة، وتخليص الإنسان من الظلم والخرافات. وفي نهاية القرن التاسع عشر كان هدف الفلسفة عند وليم جيمس (أحد رواد النظرية البراجماتية) تحقيق المنفعة العملية للإنسان بما يضمن له تحقيق أهدافه بصرف النظر عن قضايا ومشكلات المجتمع.
وعندما نتأمل قليلاً في مصطلح الفلسفة ماذا يُقصد به؟ أو كيف يُعرِّف علماء التربية الفلسفة؟ نجد اختلافاً بينهم في وصف الفلسفة؛ ويعود سبب هذا الاختلاف إلى اختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية التي كان يعيش فيها كل عالم.
فيرى سقراط (470 - 399 ق. م) أنَّ الفلسفة هي «محبة الحكمة» أو «السعي نحو المعرفة», ونستشف من هذا التعريف لسقراط أنَّ الحكمة هي موضوع الفلسفة, وأنَّ الإنسان لا يملك الحكمة بل يسعى جاهداً لنيلها, حتى وإنْ امتلك الإنسان بعض الحقائق أو الأدوات التي يتزود بها من خلال العلوم إلا أنه لا يُمكن الاكتفاء بها للوصول للحكمة؛ فالحكمة تُطلب لذاتها؛ لذا فقد تبنى سقراط فكرة أنَّ السماء قد دفعته لمهمة إيقاظ أفراد شعبه من خرافات التفكير الخيالي القائم على المرويات الأسطورية، ودعوتهم إلى التأمل العقلي (النظر العقلي) حول كثير من المعاني، منها ضرورة البحث عن إجابة السؤال الذي يدور حول معنى الحياة؛ وبالتالي ماهية الخير الذي يجب أن يحصلوا عليه, أي إنَّ سقراط أثار القلق الداخلي في أفراد شعبه لدفعهم نحو التأمل العقلي. ولعل هذا السبب الذي جعل الحزب الديمقراطي عند الإغريق يتحالف ضده لإقامة حد الإعدام به؛ لأنه يدعو لتنوير العقول، وهذا في حد ذاته يُعد مصدر خطر بالنسبة لهم. وقد نسب الفيلسوف أرسطو للفيلسوف سقراط أنَّه أول مَن أسس «فلسفة الأخلاق»؛ لذلك نجد أنَّ سقراط قد قام بفصل الأخلاق عن دينهم، ومن ثمَّ أصبحت القيم الأخلاقية المتحكمة في سلوك الفرد على درجة كاملة من الاستقلال؛ إذ إنه وضعها في منزلة مكافئة للفضيلة، ولم يضعها كإحدى وسائل التعبير عن الفضيلة. ومن أشهر مقولات سقراط في ذلك: «لا فضيلة إلا بالعلم». كما اتسمت فلسفة سقراط بعدم الخوض في أمورٍ سياسية؛ لأنَّ سقراط يرى أن السياسة تتعارض مع العدالة والحق اللذين يبحث عنهما. ومما يجدر التنبيه له أنَّ سقراط ظل يجاهر بأنه «لا يعلم شيئاً عن أي شيء»؛ ويعود ذلك الأمر - من وجهة نظري - إلى أربعة أسباب، هي: اتصف سقراط بالتواضع مع طلابه وزملائه, واعتماد سقراط على أسلوب النقاش الشفهي مع طلابه وزملائه الذي قد يؤدي لجدال من أجل توضيح وجهة النظر، أو توضيح أي لبس في فهم أمر ما, ورغبة سقراط في دفع الناس للتفكير والتعلم بأنفسهم.. ولأنَّ سقراط لم يستطع التوصل لتعريف أو تحديد لمعنى الخير.
كما يرى أفلاطون (427 - 347 ق.م) أنَّ الفلسفة هي «التشبه بالله بقدر الطاقة» - جل الله سبحانه وتعالى عن أن يتشبه به أحد فهو الخالق ونحن الخلق - لذلك فإنّ الفلسفة تعجز عن إدراك موضوعها والإحاطة به؛ لأنها عمل بشري, وهو بهذا يضع حدًّا فاصلاً بين الإنسان والإله؛ فالإنسان لو أدرك كل الحكمة لزالت عنه صفة الإنسان؛ لذا فقد سعى أفلاطون لإقامة مجتمع مثالي، يعتمد على المعايير المتشكلة من القيم باعتبارها مُثُلاً عُليا لما ينبغي أن يكون، ومُلزمة للناس في كل زمان ومكان، ولا تختلف باختلاف الأفراد. كما نجد أنَّ أفلاطون رفض واقع المجتمع الإغريقي؛ لأنه مليء بمظاهر الشر؛ لذلك يُعد أفلاطون أول مَن أسس النظرية المثالية؛ إذ يؤمن بوجود عالم آخر غير هذا العالم المحسوس، وهو ما سماه بـ»عالم المُثل»، ويعتبر مثالاً لعالمنا هذا، وأصلاً له؛ إذ لا يدرك إلا من خلال العقل؛ لأنه مختلف عن المادة؛ لذلك يتبيّن لنا أنَّ أفلاطون نقل اهتمام الناس من الأرض إلى السماء. كما رفض أفلاطون فكرة التمييز بين الخير والشر بناء على ما ينطوي عليه الواقع من قيم وعادات وتقاليد؛ لأن الواقع مبنيّ على قواعد نسبية؛ ولهذا فهو متغيّر. كما نادى أفلاطون طوال فترة حياته بأنه ليس هناك إنسان يفعل الشر بإرادته؛ ولذلك نسب أفلاطون فعل الإنسان للشر إلى حرية سلوك النفس وقت وجودها السابق على التحاقها بالجسد الذي فعلت من خلاله الشر. كما توصل أفلاطون إلى أنَّ الخير شيء مطلق، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحول إلى شيء نسبي. وأكد أفلاطون في كتابه «الجمهورية» أنَّ الاجتماع البشري ظاهرة طبيعية في حياة الناس، والمجتمع قائم على التعاون التكافل بين أفراده، وليس على الخوف والقهر. كما أخذ أفلاطون من معلمه سقراط توجيه أفكاره نحو المسائل والقضايا الأخلاقية، واعتماد تدريس التلاميذ عن طريق المناقشات الشفهية بما تتضمنه من جدال قد يؤدي في نهاية الأمر لترسيخ المفاهيم التي يريدها في عقول التلاميذ. كما عرَّف أفلاطون التربية بأنها «طرق ووسائل لتنشئة الطفل وتكميله على النحو المراد». وتوصل أفلاطون إلى أنَّ المعرفة هي «حكم العقل على الإحساس».
ويرى أرسطو (384 - 322 ق. م) أنَّ الفلسفة هي «العلم الإلهي», أي إنَّ الفلسفة تسعى لطلب الحكمة التي لا يملكها إلا الله - جلّ سبحانه وتعالى عن أن يساويه بشر في العلم -. ومن المعروف أنَّ أرسطو قد تأثر بأفكار أفلاطون؛ لأنه كان تلميذاً عنده. ويُعد أرسطو أول مَن أسس النظرية الواقعية؛ إذ وجّه اهتمامه في كتابه «الأخلاق» إلى بيان ما ينبغي أن يكون عليه أفراد المجتمع حتى يكون المجتمع فاضلاً. ونتج منها نقل اهتمام الناس من السماء إلى الأرض مرة أخرى بعد عصر أفلاطون؛ إذ كان يميل أرسطو للاهتمام بالواقع الذي تدركه الحواس باعتبار أنَّ هذا ما يعادل البحوث التجريبية التي كان يجربها أثناء دراسته مبادئ الطب؛ لذلك قامت فلسفة أرسطو على المنهج التجريبي. ومن أولى القضايا الأخلاقية التي ناقشها مسألة السعادة باعتبارها هدفًا من أهداف النشاط الإنساني؛ وذلك لأن السعادة هي ما يرغب فيه الإنسان لذاته وليس باعتبارها وسيلة لشيء آخر. كما يرى أرسطو أنَّ خير الإنسان يقوم في وصول نشاطه الذي يختص به إلى كماله، وهذا النشاط الذي يختص به الإنسان هو نشاط العقل. والدولة - من وجهة نظر أرسطو - تمثل قوة تربوية لا يُستهان بها؛ فهي التي تهيئ للفرد ظروف حياته الاجتماعية والتعليمية، وتُربي الأفراد منذ صغر سِنهم، وتُشرع القوانين التي تضبط سلوك أفراد المجتمع.
ويرى برتراند راسل (1872 - 1970م) أنَّ الفلسفة هي «وسط بين اللاهوت والعلم», أي إنَّ الفلسفة تشبه اللاهوت (الدين كما في معتقده) في كونها عبارة عن تأملات في موضوعات لم نبلغ فيها بعد علم اليقين, وتشبه الفلسفة أيضاً العلم في أنها تخاطب العقل البشري؛ إذ إنَّ العلم عند راسل هو الذي يختص بالعلم اليقين, واللاهوت عند راسل هو الاعتماد على صلابة الإيمان؛ لذا فهو يرى أنَّ الفلسفة لها علاقة بالعلم من جانب, وللفلسفة أيضاً علاقة باللاهوت من جانب آخر.
ونستخلص من هذه التعاريف السابقة لعلم الفلسفة أنَّ الفلسفة هي مجموعة من القيم والتحيزات التي تعكس موقف الفيلسوف الاجتماعي من مشكلات عصره الأساسية، سواء كان هذا الموقف دفاعاً عن ثقافة عصره، أو هجوماً عليها، أو توفيقاً بين مصالح متعددة.
لذلك فإنَّ الفلسفة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السائدة من مجتمع لآخر؛ لأنَّ كل فلسفة تُعبِّر عن ثقافة معينة؛ فالفلسفة اليونانية لسقراط وأفلاطون وأرسطو تُعبِّر عن ثقافة المجتمع اليوناني (الإغريقي) وهكذا..
وهنا قد يتساءل بعض الناس: هل هناك علاقة بين الفلسفة والعلم من ناحية, وبين الفلسفة والدين من ناحية أخرى؟ هذا ما سأجيب عنه هنا:
أولاً/ علاقة الفلسفة بالعلم:
يتضح لي بعد القراءة في كتب الفلسفة أنَّ علاقة الفلسفة بالعلم وُجدت منذ نشأة الفلسفة عند الإغريق (اليونانيين مثل: سقراط, أفلاطون, أرسطو)؛ فهي مرتبطة بالعلوم المختلفة كارتباط الأم بالأبناء؛ إذ كانوا يرون أنه لا يوجد فرق بين العلوم التي تقوم على التجريب والفلسفة التي تقوم على التأمل, حتى جاء نيوتن (1643م - 1727م) وفصل بين النتائج العلمية التي تقوم على الملاحظة والتجربة، والفروض الميتافيزيقية التي لم يجد لها مبرراً لإقحامها في مجال عمله كعالم فلك؛ لذا سأوضح علاقة الفلسفة والعلم من خلال أمرين، هما: أوجه الاختلاف بينهما، وأوجه العلاقة الوثيقة بينهما, كما يأتي:
1 - أوجه الاختلاف بين الفلسفة والعلم تتلخص فيما يأتي:
أ- أنَّ ما تقدمه الفلسفة يظل محل شك. أما العلم فهو قائم على الحقيقة.
ب- أنَّ الفلسفة تعتمد على الجانب التأملي (النظر العقلي), أما العلم فيعتمد على الملاحظة والتجريب.
ج- أنَّ الفلسفة تعتمد على التفسير باهتمامها بما وراء الظواهر الطبيعية, أما العلم فيعتمد على الوصف باهتمامه بالكشف عن الظواهر الطبيعية.
د- أنَّ الفلسفة يختصُ بها فئة محددة من أفراد المجتمع, أما العلم فهو مُتاح لجميع أفراد المجتمع.
2 - أوجه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والعلم تتلخص فيما يأتي:
أ- أنَّ الفلسفة تسأل, والعلم يُجيب عن هذه الأسئلة.
ب- أنَّ الفلسفة تلقي بالضوء على الجانب المظلم من العلم.
ج- أنَّ الفلسفة تنمو من خلال تغذيتها بروافد العلم المكتسبة بالملاحظة المباشرة والبحث العميق, والعلم يحتاج للفلسفة التي تمده بالأسس والنظريات والقدرة على الربط والتعليل.
د- أنَّ الفلسفة تتأثر بالعلم السائد في المجتمع, ومن ذلك تأثر فلسفة كانط (1872م - 1970م) بالثورات العلمية التي وُجِدت في عصره لكل من العالمَين كوبرنيكوس ونيوتن.
ثانياً/ علاقة الفلسفة بالدين:
يتبيّن لي بعد القراءة في كتب الفلسفة أنَّ الناس انقسموا لقسمين في تحديد ماهية علاقة الفلسفة بالدين, وهما:
1- فئة ترى أنَّ هناك علاقة وثيقة بين الفلسفة والدين, إذ اعتمد منهج ابن سينا (980م- 1037م) على شرح الحقائق الدينية محملة بالآراء الفلسفية. ويرتكز منهج اخوان الصفا (القرن الرابع من الهجرة) على أنَّ «الشريعة تدنست بالجهالات ولا سبيل لغسلها إلا بالفلسفة». ويَرِد عن ابن رُشد (1126م - 1198م) قوله «الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة»؛ وهو ما يؤكد أنَّ هناك علاقة قوية بين الفلسفة والدين. واهتم فلاسفة العصور الوسطى، أمثال: أوغسطين وتوما الأكويني، بالتفقه والتبحر في أمور الدين والعقيدة بحيث تكون الفلسفة مسخَّرة لخدمة الدين, في حين يرى فرانسيس بيكون (1561م - 1626م) أنَّ «معرفة الإنسان الضئيلة والسطحية بالفلسفة قد تنحرف بذهنه بعيداً عن الدين, لكن التعمق في دراستها يُلقي بالإنسان في أحضان الدين ويُرسخ إيمانه به».
2- فئة ترى أن ليس هناك أي علاقة بين الفلسفة والدين؛ إذ وجّه ابن تيمية انتقاده للفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا وغيره بأنهم على منهج خطأ. ويرى ديكارت (1596م- 1650م) أنَّ «الكاثوليكية تهدف إلى توجيه نفس الإنسان نحو الطاعة العمياء لرؤساء الكنيسة وأحكامها، وأنَّ الإنسان مطالب بالبحث في أسرار الدين ومحاولة جعل الإنسان منغلقًا عن الحياة والاكتشافات». أما فولتير (1694م- 1778م) فهو لا يؤمن بآلهة المسيحيين، ولكنه يؤمن بالعلم؛ فمن خلال العلم والعقل سيرشد الإنسان للطريق الصحيح, في حين يرى كانط (1724م- 1804م) أنه ينبغي الفصل بين الفلسفة والدين بحجة أن كل المحاولات التي تُبذل من أجل استخدام العقل استخداماً نظرياً في دائرة اللاهوت إن هي إلا محاولات عقيمة؛ لا تُجدي بطبيعتها شيئاً، ولا توصل في نهاية الأمر لنتيجة عقلية مقبولة.
لذلك نستنتج من هذا أنَّ الفلسفات التي اعتمدت على مسائل الدين، أو قامت على الدفاع عن مسائل دينية، أو حتى اهتمت بتفسير بعض النصوص الدينية، هي فلسفات بينها وبين الدين علاقة قوية، لن تنهار بسهولة.
ومما ينبغي التطرق إليه في موضوع الفلسفة توضيح مدى ارتباط الفلسفة بواقع حياة الناس؛ لذا فإنَّ مهمة الفيلسوف تتطلب ارتباطه بشكلٍ مباشر بالواقع, من خلال ملاحظة القضايا والأحداث والإحساس بالمشكلات التي تحدث في مجتمعه. ومما يؤكد هذا الأمر ما فعله الفلاسفة الأولون, فعلى سبيل المثال: أَلَّفَ أفلاطون كتاب «الجمهورية» على أمل إصلاح المجتمع الإغريقي, وأَلَّفَ جان جاك روسو كتاب «العقد الاجتماعي»، وكان له تأثير كبير في صناعة الثورة الفرنسية؛ لذا نستنتج من هذين المثالين أنَّ الفلسفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع حياة أفراد المجتمع.
كما يمكننا القول إنَّ للفلسفة وظيفتين مهمتين، هما: (التحليل والتركيب)؛ إذ استخدم الفلاسفة التحليل في توضيح أفكار مهمة, واستخدم الفلاسفة التركيب في بناء أنساق من الميتافيزيقا والمنطق والأخلاق. ومن المعروف لدينا أنَّ التحليل يُقسم الكل إلى أجزاء من خلال رد الشيء إلى عناصره المكونة له, مع التأكيد هنا أنَّ التحليل لا يقتصر على الفلسفة بل يوجد تحليل رياضي، وتحليل منطقي، وتحليل نفسي ..إلخ؛ لذا فالتحليل منهج عام، وليس منهجًا خاصًّا بعلم محدد, في حين نجد أنَّ التركيب ينقل المرء من الأجزاء إلى الكل, أو بعبارةٍ أخرى الانتقال من القضايا البسيطة إلى القضايا المعقدة.
ويتفق أفلاطون (427 - 347 ق.م) وأرسطو (384 - 322 ق. م) على كيفية ظهور أو بدء الفلسفة بقولهما إنَّ «الفلسفة تبدأ بالدهشة», وهذا يجعل المرء يرى المألوف غير مألوف, ويرى غير المألوف مألوفًا؛ فالدهشة هي نوع من اليقظة, واليقظة هي أهم ما يميز الإنسان المفكر. وإذا كانت الدهشة هي عماد العلم فهي أيضاً عماد الفلسفة؛ لذا يرى شوبنهور (1788م - 1860م) أنَّ «الدهشة هي تساؤل دائم»؛ فالإنسان كما يقول شوبنهور يتساءل دائماً، وبعض الناس يفكرون خارج إطار العلم الذي تلقوه في المدارس أو من خلال تربيتهم؛ لذا يتبيّن لنا مما سبق أنَّ الفلسفة تبدأ بتساؤل عن أمرٍ لا تعرفه رغبةً منك في الوصول لإجابات مقنعة.
ويظن بعض الناس أنَّ الفلسفة تهدف إلى النقد السلبي من خلال نقد أي قضايا ومشكلات تطرأ على المجتمع الذي قد يتخلله تطاول واتهامات وتصادم مع الآخرين.. إلخ, إلا أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك؛ فالفلسفة تهدف إلى النقد الذي يُمكِّن الإنسان من عدم تقبُّل الأفكار والسلوكيات والظروف التي تحدث من حوله تقبلاً أعمى؛ فالفلسفة تفرض على صاحبها أن يسعى جاهداً للتوفيق بين التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمع مع أفكار وسلوكيات أفراد المجتمع. كما تسعى الفلسفة إلى التمييز بين قشور القضايا والمشكلات مع لُبِّها لاتخاذ قرارات صائبة, وتُمكِّن الفلسفة صاحبها من الرجوع لأصول الأشياء وجذورها للتعرف عليها بشكلٍ أفضل.
ورُبما يتبادر إلى ذهن بعض الناس سؤال عن كيفية نشأة الفلسفة عند المسلمين, ومن هم أبرز علمائها؟ وكيف كانت آليتهم في تطبيقها؟
لقد نشأت الفلسفة عند المسلمين من خلال:
أولاً/ ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والهندية إلى اللغة العربية على مرحلتين من بداية العصر العباسي إلى عهد المأمون, ومن عهد المأمون إلى من خلفه مباشرة.
ثانياً/ في أوائل القرن التاسع عشر عرض المستشرقون للفلسفة، ولكن بدون تعمق فيها.
ثالثاً/ في نصف القرن التاسع عشر بدأت حركة الاستشراق بالبحث عن مخطوطات عربية.
رابعاً/ في العقد الثالث من القرن العشرين انتشرت الجامعات في البلاد العربية، وتم تدريس الفلسفة بها.
ومن طرق توفيق الفلاسفة المسلمين بين الدين والفلسفة ما يأتي:
أولاً/ شرح الحقائق الدينية محمَّلة بالآراء الفلسفية, وهذا منهج (ابن سينا, والفارابي, واخوان الصفا).
ثانياً/ تأويل الحقائق الدينية بما يتفق مع الآراء الفلسفية, وهذا منهج (ابن سينا, والفارابي).
وقد اتسمت الفلسفة بالغموض؛ لذلك سُميت بلغة الخاصة، فلا يُجيدها إلا بعض الناس. وقد كان للفارابي وجهة نظر في ذلك، منها:
أولاً/ استبراء طبيعة المتعلم، هل يصلح للتعليم أم لا؟
ثانياً/ لئلا تُبذل الفلسفة لجميع الناس بل لمن يستحقها فقط.
ثالثاً/ ليروض الفِكر بالتعب في الطلب.
وعندما نتمعن في تأثير الفلسفة على المسلمين نجد أنه كان ضعيفاً لأسباب عدة، يراها الكاتب، هي:
أولاً/ أنَّ الذين نقلوا هذا الفِكر الفلسفي للمسلمين هم من غير المسلمين.
ثانياً/ انتقاد فقهاء الدين مثل: ابن تيمية للفلاسفة مثل: ابن سينا.
ثالثاً/ تناول الفلاسفة الحديث عن مسائل ميتافيزيقية بعيداً عن الانشغال بعلم عملي قريب من واقع حياة الناس ومشكلاتهم.
رابعاً/ إصرار الفلاسفة على أن تكون الفلسفة من علوم الخاصة.
خامساً/ صعوبة لغة الفلسفة.
ختاماً:
إنني أتفق مع تدريس الفلسفة للطلاب والطالبات في المدارس والجامعات لأسباب عدة، منها:
أولاً/ تحفِّز الفلسفة الطلاب والطالبات على السؤال عما يتبادر في أذهانهم للوصول لإجابات مقنعة لهم.
ثانياً/ تساعد الفلسفة الطلاب والطالبات على استخدام مهارات تفكير عُليا في مثلث بلوم المعرفي، مثل: التفكير والتحليل والتقويم.
ثالثاً/ تكسر الفلسفة الجمود الذي قد يتواجد داخل الصف الدراسي بين المعلم وطلابه في بعض المناهج الدراسية من خلال استخدامه بعض الاستراتيجيات التقليدية، مثل: المحاضرة أو الإلقاء، التي قد تُشعِر الطلاب بالملل والخمول في الدرس.
رابعاً/ تُبصِّر الفلسفة أفراد المجتمع بأسباب المشكلات التي تحدث في المجتمع على اختلاف تنوعها، والربط بينها، والبحث عن حلول لها.
خامساً/ تُساعد الفلسفة على بناء الفرد أو بناء إنسان جديد. وهذه من إحدى مهام الفلسفة لدى أفلاطون وديكارت.
سادساً/ تُعين الفلسفة الباحثين والباحثات على إرجاع البحوث إلى مبادئها، والكشف عن فروضها وأصولها.
سابعاً/ تدعم الفلسفة الباحثين والباحثات بنظريات تربوية، من شأنها أن تجعلهم يتعمقون في جذور المشكلة المدروسة؛ وهو ما يمكّنهم من فهمها كما ينبغي.
ثامناً/ تُساعد الفلسفة المؤسسات التعليمية على توجيه العلوم والمعارف وتنظيمها وتصنيفها.
تاسعاً/ تُتيح الفلسفة للمعلمين والمعلمات استخدام استراتيجية نشطة، تُساعد على حُسن تفاعل الطلاب والطالبات معهم أثناء سير الحصة الدراسية, مثل: سؤال وجواب, العصف الذهني, حل المشكلات.. إلخ.
عاشراً/ لوجود علاقة وثيقة بين الفلسفة والعلم؛ فالفلسفة بحاجة لروافد العلوم المختلفة لكي تنمو, والعلم بحاجة للأسس والتعليل والنظريات التي تعتمد عليها الفلسفة.