مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
قال الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي أستاذ أصول الفقه ورئيس التوعية الفكرية بجامعة أم القرى، والمشرف على أنشطة وقف سلف للبحوث والدراسات إن الدفاع عن السنة ومدوناتها في عصرنا إحدى جبهات الدفاع عن الدين التي ينبغي أن تكون ميداناً للعمل لدى الجهات العلمية والبحثية والإعلامية.
وكشف الدكتور محمد السعيدي أن الدعوات لحجب السنة، والتشكيك والطعن فيها، والاقتصار على القرآن الكريم ليس بجديد فهي من عصور قديمة لكنها في الغالب كانت تلبس أردية تستر سوآتها عن الناس لتُروجها بينهم كإنكار خبر الواحد في العقائد أو إنكاره فيما يخالف القياس أو العقل؛ أما في العقود المتأخرة فقد ظهرت مكشوفة العورة داعية إلى إنكار السنة وإبطال العمل بها جملة وتفصيلاً، والاقتصار على كتاب الله تعالى دون سواه من سنة صحيحة أو حسنة، آحادية أو مستفيضة؛ وهي بذلك دعوة لإسقاط الإسلام بالكلية علم بذلك القائمون بهذه الدعوة أم جهلوا.
واستشهد الدكتور محمد السعيدي ببيان ذلك من وجوه:
الأول: أن حقيقة الطريق الذي ثبتت به السنة هو الطريق الذي ثبت به القرآن، وهو الرواية، فمن يُنكر ثبوت السنة سيؤول أمره إلى إنكار القرآن، وهذا ما حدث عند بعضهم؛ وإن كان حملة راية هذه البدعة اليوم يُفَرِّقُون بكون السنة ثبتت بطريق الآحاد والقرآن ثبت بطريق التواتر، إلا أنَّ هذا الفرق ما أسرع أن تدخل إليه الشبهة لأن التواتر لا يُمكن إثباته بالأسانيد إذ إنه نقل الكافة عن الكافة، فلا يجدون إلا أسانيد القراءات التي حفظها القراء، وهي في نهاية المطاف آحادية؛ فإذا انتهوا إلى إسقاط القرآن بعد إسقاطهم السنة ذهب الدين كله.
الثاني: أن معظم الأحكام التي تتعلق بالعبد في يومه وليلته من عبادات وأذكار وأدعية وسنن رواتب وأخلاق وآداب إنما تثبت بالسنة، وكذلك صفات أركان الإسلام، فرائضِها وواجباتِها ومندوباتها ومقاديرها وأوقاتها ليس لها مستند غير السنة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج لولا السنة لكانت أسماء لا يُمكن معرفة هيئة أدائها، فإذا ُأفْرِغَ يومُ الإنسان من إرشادات السنة، وأُفْرِغت أركانُ الدين من صفاتها وأوقاتها ومقاديرها، فأين الإسلام إذاً؟!
الثالث: تضمنت الشريعة أحكاماً لتسيير حياة الأمة الإسلامية من أحكام الجهاد والبيوع والشركات والقضاء والحدود والجنايات والأنكحة، وحقوق الراعي والرعية وواجباتهما، وأحكام العلاقات بالأمم الأخرى، وليس في أحكام هذه الأبواب ما مستنده المباشر الكتاب إلا القليل ومعظم هذا القليل عمومات وإطلاقات، فإذا ذهبت السنة ذهب كل هذا وبقينا أمة عُطلاً من فقه الحياة، وصرنا حقاً عالة على عقولنا وأهوائنا وأهواء الأمم من حولنا.
وبذلك نُدرك أنه لا حياة إسلامية للفرد والأمة إلا بالدين، ولا دين إلا بالسنة، فمن رام هدم السنة فليس له مرام على الحقيقة إلا هدم الدين.
واستطرد الدكتور السعيدي في حديثه قائلاً: وصحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري هو بإجماع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم أعلى كتب السنة المطهرة مقاماً، وذلك لما اختص به من العلو في الترتيب واختيار الأسانيد والروايات وفقه الحديث المتمثل في عناوينه التي يضعها للكتب والأبواب، لذلك اعتنى به أذكياء الأمة وأكابر أهل الصناعة الحديثية فيها من لدن رواية مؤلفه له وحتى يوم الناس هذا، فكانت ثمرة هذه العناية توالي الأجيال العلمية على تزكيته، مشيراً إلى أن منكري السنة لما رأوا صعوبة تقبل الناس لدعواهم جَحْدَ السنة بالكلية أرادوا أن يستروا سوأتهم هذه ويقتصروا على زعم كون صحيح البخاري ليس كلُّه صحيحاً، وأنه كسائر الكتب يحتوي على الصحيح والسقيم، فإذا انطلت دعاواهم على الناس في شأن البخاري فما دونه من مدونات السنة سيكون أولى بقبول النقد، وكأنهم بذلك تعمدوا الذهاب إلى السنة وفصل رأسها عن جسدها، فإذا سقط الرأس سقط الجسد، ومنهم من انتقل بسرعة إلى المرحلة الثانية فكذَّب صحيح البخاري كله من أوله إلى آخره، وهؤلاء هم الأقل خطراً وأثراً وذلك لظهور عداوتهم للسنة وتهافت شبههم، أضف إلى ذلك كونَهم لم يُعرَفوا بغير الجهل والتسلق وادِّعاء ما لم يُعطوا، ومنهم من الشيعة الاثني عشرية ممن يتضح للناس أن مرامهم تغليب جانب بدعتهم المنهارة على مذهب أهل السنة، فكان في وجود هؤلاء في معسكر نقاد البخاري نعمة عظيمة أيقظت بعض المنخدعين بالدعاوى، لأن أمثال هؤلاء من أصحاب البدع لا يُقبل منهم نقدٌ لمثل صحيح البخاري وهم يؤمنون بكتب لا إسناد لها ولا خطام ولا زمام ولا تستوي على ساق.
وأضاف الدكتور محمد السعيدي: لكن معسكر نفاة السنة ومنهم نُقَّاد البخاري بكل علاته تضخم وأصبح ذا عدد وذا مقالة مسموعة في وسائل الإعلام، وينصرهم أيضاً قليل من أصحاب المال والسياسيين ومتخذي القرار في بعض الدول الإسلامية، وذلك لما في بدعة إنكار السنة ونقد البخاري من عون لأتباع الأهواء والمفتتنين في الدين من الذين ضيقت عليهم تفاصيلُ الشريعة مجال الهوى فاستقلوا نطاق المباحات التي جعلها الله تعالى فسحة وتوسعة لعباده، واستكثروا المحرمات التي هي حدود الله، والمكروهات التي هي ذرائع الحرام والشبهات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فضاقت عليهم بذلك دنياهم التي هي مبلغ علمهم ومنتهى أملهم، فكان جحد السنة وعلى رأسها صحيح البخاري حلاً بزعمهم ليُفرطوا في أمر دنياهم ويُفَرِّطوا في أمر دينهم.
ومن عظيم فضل الله تعالى أن الاحتجاج بالسنة عليه أقوى الأدلة من كتاب الله تعالى، ومن العقل الصريح والنقل الصحيح؛ وصحيحُ البخاري على وجه الخصوص على صحته ودقته ورصانة العلماء في قولهم بتقديمه أبلغُ الحجج في صناعة الإسناد وفي علم الحديث رواية وفي علمه دراية، لذلك لم يستطع أعداء السنة عامة وأعداء صحيح البخاري خاصة أن تقوم لحججهم قائمة أمام أدلة السنة وأمام الردود على شبهاتهم، وقد عُني كثيرون بجمع الشبه التي انتقد بها صحيح البخاري وبالرد عليها فكانت كلها موفقة بحمد الله تعالى وفضله ومنته.