الهادي التليلي
كل لحظة تاريخية فارقة تصنع متغيراتها، هذا ما علمه لنا التاريخ القديم والوسيط والحديث وتلك هي حكمة الأيام فالانهدام الآسيوي الإفريقي نجم عنه ميلاد قارتين مستقلتين هما إفريقيا وآسيا والحرب العالمية أفرزت قوة عظمى هي الولايات المتحدة الأمريكية لها من الحضور والفعل بعد إسهامها الحاسم في 1942 كما أفرزت تقلص دور الكيان الأوروبي وبروز نجم دول عدم الانحياز ككيان مالي مهم وجاء فيروس كورونا وتداعياته على البشرية حيث أفرز مئات آلاف الموتى وملايين المصابين من كافة أرجاء المعمورة يبشر بمتغيرات عميقة التأثير في المشهد العالمي فعلاً وتأثيرًا وأول ما مس هذا التغيير قارة أوروبا حيث شهد هذا الكيان القديم زلزلة داخلية وحركة تكتونية عميقة على مستوى القوة والحضور، بل صارت أوروبا مهددة بما حدث للاتحاد السوفياتي السابق والإمبراطورية العثمانية المتحللة التي نعتت بالرجل العجوز في آخر أيامها فأوروبا التي تأسست ككيان على إثر اتفاقية ماستريخت الموقعة في 1992 ويعد تاريخ الميلاد الحقيقي لها في 1 نوفمبر 1993 ولدت بأحلام بعضها واقعي وبعضها طوباوي إذا ما علمنا بأن مساحتها 4476000 كيلومتر مربع بـ27 دولة مختلفة التوجهات مستفيدة من تشقق الاتحاد السوفياتي السابق دون الوعي بأن التمدد الجغرافي المبالغ فيه يحمل في طياته أسباب انهياره ولكن أحلام البلدان المؤسسة للحلم الأوروبي كانت دافعة للمؤسسين وهم ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبرج.. نحو الإمام.
أوروبا التي تكتلت في اتحاد أوروبي بشكل مركب يدفع الحلم باستعادة التاج الأوروبي القديم وتجاوز مسمى القارة العجوز بالاتحاد الناشئ، لكن الاغراء الذي كان يشد كتل الاتحاد كانت كورونا كفيلة بحلحلة فعله حيث بينت أن هناك دولا أقل حظاً منها إيطاليا وإسبانيا والبرتغال والتي عانت وتعاني من كورونا وسط تجاهل الاتحاد الذي اختارت بلدانه القوية سياسة الخلاص الفردي فمات الشيوخ في الشوارع وشاهد العالم في 2020 ما كان قد شاهده في الحربين العالميتين من مظاهر فقر وبؤس كما شهدت بلدان كانت تعد من عواصم الاستعمار القديم ونذكر على وجه الخصوص فرنسا التي أدمتها كورونا زيادة على المشكلات الاجتماعية والأخطاء السياسية الفادحة لماكرون فصارت كما الثور الجريح مرة يرتمي على الساحة اللبنانية وأخرى على الساحة الإعلامية وفي الحقيقة فرنسا ودون أن تشعر تغادر مشهد الدول العظمى رويدا رويدا وبشكل قد لا يراه إلا الفرنسيون الذين جاعوا كما لم يحصل معهم من قبل فرنسا لم تعد فرنسا ومثلها توجعت بريطانيا من كورونا بشكل لافت ولكن ما ميز بريطانيا وقدرتها على التجاوز هو استبقاؤها لخزانات كبيرة من بلدان وكيانات كانت إما سبباً في وجودها أو أنها بقيت تحت هيمنتها الاقتصادية أو حتى الإدارية ولعل خروجها السابق لكورونا من الاتحاد الأوربي بمنزلة الناجي من قارب الغرق ودول أوروبا الإسكندنافية الأصلية منها كالدنمارك والسويد والنرويج والمضافة اليها بحكم العرق ونعني فنلندا وايزلاندا فقد اختارت أن تكون شيه جزيرة تنموياً حتى لا تلحقها تبعات أزمة كورونا الاقتصادية والعدوى الاقتصادية حفاظاً على مكتسباتها التنموية وبنفس الطريقة سعت سويسرا التي تدخل ضمن الشينغن دون أن تكون عضوًا في الاتحاد بعيدة كل البعد على أن تكون في الاتحاد المتفتت جراء عاصفة كورونا..
وكما أسهمت كورونا في تعميق جراح أوروبا فإنها أظهرت للعالم كياناً تنموياً ليس جديدًا على المشهد العالمي ولكنه تميز في أدائه وهو يثابر في تجاوز جائحة كورونا ببذل وإيثار لفت انتباه العالم بأسره خاصة أنه تزامن مع انعقاد قمة مجموعة العشرين ونعني بذلك السعودية التي برزت كقوة تنموية ولاعب مركزي في المشهد الإنساني خلال جائحة كورونا، بل فتحت أعين العالم على كامل منطقة الخليج كمشروع كيان عملاق قادم ليحل مكان القارة العجوز ونعني بها أوروبا فالتاج الخليحي الذي تعاظم أثره وأداؤه سيكون فاعلا في الأيام المقبلة في المشهد الكوني اقتصادياً وسياسياً وذلك شريطة التلاحم والالتفاف حول المكتسبات التي تشكل اللغة والجغرافيا والمعتقد ووحدة المصير أهم ركائزها.