د. عبدالله بن ثاني
استحضر المشهد الانتخابي الأمريكي من جديد أوباما، أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد العريقة من خلال دعمه للحملة الانتخابية لنائبه في الرئاسة «بايدن»، وتذكَّرت حينما تولى أوباما الرئاسة أنني كتبت في صحيفة الجزيرة السعودية الموقرة عدد (13201) وتاريخ 19/11/2008 م مقالاً «من أجل الطفولة يا ملك الألوان..»، وكان المقال استشرافاً لواقع مرعب كان ينتظر أطفال العرب فيما يسمى الربيع العربي المدعوم لوجستياً، وقد بدأ بعبارة: «لم يستوقفني في انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية الأخيرة إلا دمعة أوباما التي استقرت على خده بتحدٍ رغم كل شيء حزناً على جدته قبيل فوزه بثلاثة أيام تقريباً.. كانت صورة مدهشة وعلى خد مدهش وزمان أكثر دهشة، والعجب العجاب أنها خاطبت البشرية بأسرها بلغة الطفولة التي تعرف معنى اليتم ووجع الغربة... وفهم سكان الأرض جميعهم سر تلك الغصة ذات الملوحة المركزة، حينما تكورت على بريق خد يشحذ العدسات والفضائيات والمراسلين أن يلتقطوا صورة بألف صورة، ربما لن تتكرر في أي انتخابات قادمة..»،
ثم كتبت له في نهاية عهده مقالاً في صحيفة القبس الكويتية الموقرة بتاريخ 15 / 3 /2016م بعنوان:» أما أطفالنا فلا بواكي لهم.. يا أوباما «، وقد بدأ بعبارة: «ما ردة فعل مارتن لوثر كينغ الذي قال في كلمته المشهورة «لدي حلم» «إنني أحلم اليوم بأن أطفالي الأربعة سيعيشون يوماً في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم»، وهو يشاهد بأم عينه على شاشات التلفزة أطفالنا، وهم يموتون جوعاً في هذا الجزء من العالم، وهم في أحضان أمهاتهم وقد تحولوا إلى هياكل عظمية مرعبة من الهزال ونقص الحليب، فضلاً عن ازدياد معدلات الجهل والأمية، بسبب حروب لم يكونوا ذنوبها، ولم يكونوا أسبابها، بل كانت سقوطاً أخلاقياً للأنظمة وعسكرتاريتها المجنونة.. وماذا لو رأى بدوي الجبل أطفال مضايا، وهم بتلك الحالة وأطفال غزة وهم محرمون من الماء والغذاء والدواء، وأطفال اليمن وهم مختطفون من التعليم وفصول الدراسة إلى الخنادق وعلى الحدود، وماذا وماذا وماذا، ولا بواكي لهم...».
لا أدري لماذا حرصت على قراءة مذكرات أوباما «الأرض الموعودة» وحديثه عن السعودية آنذاك، والوقوف أمام الأفكار التي كانت في الحالة الذهنية للرئيس أوباما عنها، والتي شرع في كتابتها منذ كان في الطائرة التي نقلته من البيت الأبيض ليتولى بعده فخامة الرئيس ترامب والذي كان متناقضاً معه تماماً، ووقفت عند فكرة مهمة وهو الإصلاح في السعودية الذي قاده سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمباركة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز خلال السنوات الأربع الماضية، فأعاد هيكلة الدولة وفكك التوحش الأيديولوجي وقضى على الفساد الإداري والمالي، وعزز من هيبة الدولة الوطنية ومكَّن المرأة السعودية من المشاركة في بناء وطنها بعد أن رفع عنها كثيراً من القيود الاجتماعية المحكومة بالعادات والتقاليد، وغير ذلك من الإصلاحات في التعليم والإعلام والخطاب الديني والشؤون الاجتماعية، إذ نجح سموه في غرس ثقافة جودة الحياة للمواطن والمقيم على أرض السعودية الحديثة، وفرض سموه تلك الإصلاحات على واقع الناس المبتهجين بها في سنين معدودة، بينما تحتاج الأوطان والدول ورواد المشروعات الإنسانية الكبرى إلى عقود من السنين حتى تكون حقائق في حياة شعوبهم كي يلمسوا آثارها ويستمتعوا بنتائجها الواقعية.
ومما يدل على أن هذه الإصلاحات العميقة تنبع من الفكر الاستراتيجي للأمير محمد بن سلمان أن سموه اتخذها في عهد ترامب الذي كان يزدري أوباما وأفكاره، ولم يكن في ذهن سموه حقبة أوباما في الأرض الموعودة « الولايات المتحدة الأمريكية «، مما يدل على أنها قناعاته في المسؤولية وإعادة صياغة السعودية الحديثة مثلما كانت قناعات عظماء التاريخ الذين رسموا لأوطانهم مكاناً على الخريطة الإنسانية، ونقلوا شعوبهم من حالة ما إلى حالات أفضل، وحينما نستعرض أفكار أوباما عن السعودية في مذكراته ونقارنها بإصلاحات الأمير محمد بن سلمان التي أحدثت تغييراً مذهلاً للعالم بأسره خلال هذه السنوات الأربع نؤمن أنه يجدر بالمفكرين وزعماء الإصلاح على مختلف مشاربهم أن يتأملوها، وسأركز على قضيتين مهمتين:
1 - ذكر أوباما أنه قد لفت انتباهه أنه لم يجد في برتوكول استقباله نساء وأطفالاً وهو يشير إلى وضع المرأة آنذاك فقال: «وصلت إلى الرياض حيث كان من المقرر أن ألتقي الملك عبد الله بن عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين، وأقوى زعيم في العالم العربي.لم تطأ قدماي المملكة من قبل، وفي حفل الترحيب الفخم بالمطار، أول ما لاحظته كان الغياب التام للنساء أو الأطفال على المدرج أو صالات المطار، فقط صفوف من الرجال ذوي الشوارب السوداء بالزي العسكري أو الثوب والغترة».
ومن يمعن الفكر وينعم النظر في رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي هندس عبقريتها الأمير محمد بن سلمان وباركها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أنها ركزت على تمكين المرأة وجعلت تمكينها مشروعاً نهضوياً، وصنعت منها قيادات في رحم المسؤولية وصنع القرار السعودي فتم تعيينها في مناصب قيادية عالية فضلاً عن فتح آفاق التوظيف لها، وأصبح لها حضور مشرف في صنع قرار الوزارات والسفارات والمشاهد العامة، ولا تزال الدولة تسعى إلى مزيد من تمكينها.. ولم يقتصر الإصلاح على المناصب بل إنه تم توجيه المحاكم والأنظمة واللوائح إلى إنصافها ورفع الوصاية غير المشروعة عليها وفق ما يأمر به الشرع، وأن القوانين الدينية التي نص عليها أوباما في مذكراته هي من يرفع الظلم عنها ويحفظ كرامتها، وربما كانت تلك الصورة بسبب عادات وتقاليد ليست من الإسلام حطَّم قيودها الأمير محمد بن سلمان، وجفف منابع القوى الضاغطة التي كانت تستغلها وتلعب على وتر توحيش المجتمع وتخريب فعاليات الترفيه ومعارض الكتاب وزيارة المهرجانات والتشويش على أي إصلاح، وقد صور أوباما تلك المرحلة بقوله: «لم تكن لدي طريقة رائعة لشرح التناقض الواضح، بخلاف الاعتراف بأن العالم كان في حالة فوضى»، ولذلك تم بقوة إقرار قيادة المرأة للسيارة وبدعم من القوانين الدينية التي نص عليها أوباما، وكذلك زاد من الفرص الاقتصادية والمبادرات وريادة الأعمال لرسم حياة أفضل للمرأة في السعودية الحديثة، لأن الإصلاح الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان يجد معاونة من العلماء والمفكرين ومختلف شرائح المجتمع السعودي دون استثناء، ولا أدل على ذلك من أن هيئة كبار العلماء التي تمثل أعلى سلطة دينية رسمية في السعودية لم يصدر عنها أي فتوى تدعو للإرهاب أو القتل أو الضرر بالناس وضروراتهم الخمس أو التجاوز على الدول أو المؤسسات العالمية، بخلاف المؤسسات الدينية الإيرانية مثلاً التي أصدرت آلاف الفتاوى للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وكان آخر موقف يحسب للمؤسسة الدينية في السعودية تجريم تنظيم الإخوان المسلمين المسبب لكل التنظيمات الإرهابية والعمليات الإجرامية، وهذا يجعلنا نقف أمام قول أوباما في مذكراته موقف المنصف عن المؤسسة الدينية بأنها لا تمارس دورها الرسمي والنابع من مسؤوليتها الإسلامية تجاه السلم والسلام والتعايش، وتجريم كل ما يؤدي إلى الضرر بالشعوب والدول على السواء، ليتأكدنا أن كل الممارسات الإرهابية التي يقوم بها الإخوان والقاعدة والسروريون والدواعش الذين اختطفوا المشهد في السابق لا تمثل تلك المؤسسة الدينية، وليست من صميم موقفها الإنساني العادل وليس هناك إسلام سعودي، بدليل أن الملك عبد الله - رحمه الله - قد أيده على محتوى خطابه في جامعة القاهرة وما فيه من مضامين التعايش مع الديانات الأخرى، ومن يتابع قمة العشرية G20 الأخيرة المقامة على أرض السعودية يدرك أن محوراً من محاورها الثلاثة يخص تمكين الإنسان وبخاصة المرأة والشباب وفتح آفاق جديدة لهما، ومما يدل على الإصلاح وسياسة الانفتاح أن كل ذلك البروتوكول الذي استقبلت به السعودية أوباما تغير في استقبال ترامب وسيكون أفضل أيضاً في استقبال بايدن، وهكذا التطوير المنطقي في حياة الشعوب وفكر الدول.
2 - تحدث أوباما عن الفكر الحركي والإسلام المختلف بين إندونيسيا والسعودية، ونقل قول الملك عبد الله - رحمه الله - عن الثورات في الشارع العربي قائلا:»بل ثمّة أربع جهات تقف خلف تحركهم في الشارع: («الإخوان المسلمون» و»حزب الله» و»القاعدة» و»حماس»).
كان الحديث عما يسمى الربيع العربي، والعجب كيف فات على الرئيس أوباما نقد القاعدة والاحتفال بقتل زعيمها آنذاك في عملية نوعية من جهة ومن جهة أخرى كان يبحث عن مسوغات لثورات رموزها وتأييد هذه الجماعات الإرهابية في الانقلابات والاستيلاء على السلطة بالدم والهدم والسماح عن طريق الدعم اللوجستي بتحكم المغامرين بمصير الشعوب ومستقبل السلام في العالم ، علماً أن الخيانة للإسلام والوطن والإنسان من قبل تلك التنظيمات لم يكن وجهة نظر في مشروع خدماتي ولا اختلاف في قضية رأي مستساغة ولا ممارسة لحرية على حساب حريات الآخرين.
ومن يلحظ السياسات التي أقرتها الدولة في السنوات الأربع الأخيرة من حساب للمفسدين والمختلسين دون حصانة لكائن من كان، يدرك أن الإصلاحات كانت استراتيجية في ضبط المال العام، حين أكدها سمو الأمير محمد بن سلمان في لقائه المشهور بأنه لن ينجو أي أمير أو وزير أو ممن ثبت عليه فساد من المحاسبة وفق اللوائح والأنظمة التي أقرها خادم الحرمين الشريفين، وغرس سموه في ذهنية المواطن السعودي والمقيم على السواء أسس النزاهة كثقافة مجتمعية تضبط الناس، إذ لا يمكن أن يكون لأي مشروع الريادة والتمكين في ظل الفساد والهدر المالي والمحسوبيات.
نعم لقد نسي أوباما أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة ابن لادن من الأثرياء وكذلك أعوانه ممن يملكون الأموال والأصول، وأن سبب الخروج لا علاقة له بالفقر والجوع والحياة الدنيا وإنما كان لهم مشروعهم السياسي الدموي والذي اكتمل في ممارسات داعش المرعبة التي تجاوزت عملياتها الإرهابية العالم العربي إلى أوروبا وأمريكا أيضاً، ففي الوقت الذي يحتفل أوباما بالقضاء على زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي في مؤتمر صحفي وفي يده كوب من القهوة، نجده يتناسى استراتيجيتها الدموية في تأزيم المشهد العربي واستغلال الإخوان المسلمين والقاعدة وحزب الله وحماس لقضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني التي ذكرها أوباما في مذكراته والتي حملها غيرهم جهلاً بالواقع السياسي، وأن كل هذا التشويه لمنهج السلف الصالح هو بسبب هذه الجماعات المتمردة التي تدعي السلفية للاستقطاب والتمكين لدى الشباب بخاصة والمجتمع بعامة الذين يطمئنون لهذا المصطلح شرعة ومنهاجاً، وفي الحقيقة التي كان واجباً على أستاذ الفلسفة والمفكر في جامعة هارفارد أن يدرك أن تلك الجماعات الإرهابية وعلى رأسها حزب الإخوان المسلمين وما تناسل عنه من قاعدة وسرورية وقطبية وداعش ونصرة لا علاقة لها بالسلفية ولا الوهابية، إذ تتبنى منهج الخوارج الثوري الذي يتناقض مع منهج السلف الصالح المسالم.
إن الجهد الذي قام به الأمير محمد بن سلمان هو تجفيف منابع هذا الفكر الإرهابي حقيقة وليس ادعاء، وربما اختلف سموه في علاج هذا الظاهرة أنه رسم استراتيجية في القضاء المبرم على أسس هذا الفكر والذي اتخذ من التعليم والإعلام والشؤون الإسلامية محاضن كانت بدعم من أمثال الإرهابي الهارب سعد الجبري وغيره، فأمر بتوقيف رموز هذا التنظيم فجفت نشاطات هذه التنظيمات وكانوا سابقاً يسرحون ويمرحون في خطابهم واستقطابهم دون محاسبة ودون توقيف بل يتم توقيف التابعين، وكان هذا الأسلوب سبباً لاستمرار الإرهاب في الواقع آنذاك ولم تقف عملياته في الداخل والخارج إلا على يد سمو الأمير محمد بن سلمان الذي خلص البشرية من هذا الشر المستطير بالحزم والعزم والمتابعة، وأعاد للإسلام صورته السمحة في السلم والسلام والتعايش من أجل مستقبل أفضل للإنسان السعودي الذي يعيش مرحلة إصلاح جذرية في إعادة تشكيله وتشكيل أولوياته في التعليم والإعلام والشؤون الإسلامية في دور لا يقل عن دور الرئيس الأمريكي ريغان حينما أعلن في عام 1983م أن الأمة في خطر ووضع استراتيجية في جوانب حياة الشعب الأمريكي الذي نجح كقطب أوحد في قيادة العالم، ولذلك لا يليق برؤسائه إلا دعم السلم والسلام وشرفاء العالم المخلصين لإصلاح شعوبهم وخدمة المشروع الإنساني وحماية كوكب الأرض، انطلاقاً من أن كارزما القيادة تحتم عليهم أنها مسؤوليات تاريخية وليس صلاحيات فقط، كما أن فكر سمو الأمير محمد بن سلمان الإصلاحي ينسجم مع منهج السلف الصالح المتمثل في هيئة كبار العلماء المعتبرين الذين يأمرون الجميع بطاعة ولي الأمر والسماع له والنصح له بالمعروف، ووحدة الوطن أكبر من النظرة القاصرة لدور المؤسسة الدينية المعين الأول لولي الأمر في التكامل المتناغم مع مسؤولية رسم السعودية الحديثة وتجاوز تحديات المرحلة وما فيها من إصلاحات ومعوقات على السواء.. والله من وراء القصد.