صالح الناصر العمري
لا يختلف اثنان على أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تأخذ حيزًا كبيرًا من أوقات كثير من الناس، فبعضهم يصبح ويمسي يجلس ويمشي مع هذه البرامج التي ارتبط معها حسيًا ومعنويًا وحتى وجدانيًا.
في السابق كان محيط اهتمام الفرد اليومي غالباً ما يكون موزعًا على أربعة اهتمامات رئيسة يعيش فيها ويتعايش معها، متمثلة في أموره الخاصة وأسرته وعمله وعلاقاته الاجتماعية، لكنه في السنوات الأخيرة أضاف لها اهتماماً خامساً (بإرادته) يتمثل في وسيلة التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، سواء واتساب أو تويتر أو سناب شات أو غيرها من هذه البرامج، وهذا الاهتمام الجديد دخل بقوة ووجد له مكاناً فسيحاً ورحباً من أوقات الكثير، مماُ أدى إلى تقليص الاهتمام بالأمور الرئيسة، فقد طغى اهتمام بعضهم بوسائل التواصل على حساب الاهتمامات الأخرى الباقية، كالانشغال عن الأسرة وشؤونها أو التقصير في العمل أو إهمال الأمور الشخصية أو فتور في العلاقات الاجتماعية..
وكم لاحظنا ذلك جلياً في مقرات العمل أو بعض المجالس المختلفة، فهناك من كان شعلة حية في عمله نشيطاً جاداً مُنجزاً أصبح مع وسائل التواصل أضعف إنتاجية وأقل فائدة.. وهناك بالمقابل من كان في المجالس العامة معروفاً بحضوره الإيجابي بالعلم النافع والخبر المفيد والتعليق الظريف، أصبح مع وسائل التواصل منغمساً فيها شارد الذهن (يتحسس) جواله بين الحضور كل خمس دقائق،، نصفه موجود على الحقيقة والنصف الآخر افتراضي، بل إنه أحياناًً ينسى نفسه ومحيطه فيبدأ بالضحك والتعليق والقهقهة أمام الحضور على تغريدة تويترية أو على رسالة واتساب!
ونحن إذا تعمقنا أكثر ونظرنا إلى تعدد وسائل التواصل الاجتماعي وجدنا أن (الواتساب) هو الوسيلة الأشهر والأكثر استخدامًا وجاذبية لدى شريحة كبرى من الناس في التواصل مع بعضهم لثلاثة أسباب رئيسة: أنه مجاني وفي الوقت نفسه سهل الاستخدام، وكونه مصدراً سريعاً للمعلومات والأخبار..
هذا البرنامج كما البرامج الأخرى يجمع بين الإيجاب والسلب بشكل واضح، فبالنظر إلى أبرز إيجابياته نجد أنه قرب المسافة واختصر الوقت ورفع الوعي ونشر المعرفة، كل ذلك أدى إلى زيادة الثقافة المتنوعة لمستخدميه، ونتيجته الحتمية أن جعلهم أكثر انفتاحاً وعمقاً وفهماً للواقع المحيط بكل مكوناته، وهذا جانب إيجابي كبير.. لكنه في المقابل ينطوي على مزيد من السلبيات المتلاحقة لمن يسيء استخدامه، من أهمها كثرة التعلق والإدمان الشديد على الاستخدام بداع وبدون داع، فهو سهل وسريع الاستخدام لا يحتاج التعامل معه إلى مجهود، مما يصعب فيما بعد الانفكاك عنه أو تركه أو حتى التقليل منه، وبالتالي يعمل على عزل مستخدمه عن محيطه الداخلي والخارجي، فالموضوع ليس بتلك السهولة فـ(مدمن) التعامل مع الواتساب أسرع الناس فقداناً للتركيز، وأكثرهم هدراً للوقت، دائماً مشغول الذهن يترقب الجديد من خبر أو تعليق، حتى أنه إذا شارك برأي أو خلافه أخذ وقتاً طويلاً بانتظار ردود الأفعال على مشاركته..!
وبمجرد قيامنا بتحليل الواقع الفعلي لتعامل أغلبية الناس مع برنامج الواتساب نجد أنهم قد استخدموا أحد أبرز خصائصه، وهي إنشاء مجموعات (قروبات) مشتركة، كمجموعات العائلة أو العمل أو الأصدقاء وكل مجموعة ذات أهداف خاصة ومعروفة..
أضحت هذه المجموعات كالمجالس العامة غير أنها افتراضية ما يمكننا تسميتها بـ(المجالس عن بعد) فهذه المجالس الافتراضية لا تختلف في مواضيعها عن المجالس العامة الحقيقية بشخصياتها ومحتواها وما يجري فيها..
ومن خلال التعامل مع هذه المجالس الافتراضية نجد أن محتواها أخبار تتداول وآراء تطرح ونقاشات تحتدم، ويلاحظ أحياناًً أن النقاشات فيها أكثر حدة من نقاشات المجالس العامة لأسباب عدة:
أولاً: كثير من الناس لا يجد في نفسه القدرة على الخطاب المباشر أمام الآخرين وتحديداً في المجالس العامة، لكن إذا تعامل (منفردا) مع التقنية فإنه ينطلق أكثر ويأخذ راحته ووقته (على الآخر) بدون أن يرتبك أو يتلعثم..!
ثانياً: أن الأحاديث والنقاشات في المجالس العامة تُطرح ثم تنتهي بوقتها ويأتي حديث ونقاش آخر يُنسي ويمحو النقاش الأول، أما في (المجالس عن بعد) فالنقاش موجود يُقرأ مرة ومرتان اليوم أو غداً أو بعد شهر، وبعض الناس يعيد قراءة النقاشات مرات عدة مفسِراً إياها حسب مفهومه..!
في ظل هذا الشغف والاهتمام المجتمعي المتزايد لقروبات الواتساب يلحظ المتابع أن هناك تفاوتاً ملموساً في مدارك وعقول ونفسيات أعضاء هذه المجموعات، ذلك التفاوت يؤدي حتماً إلى بعض الإشكاليات المحرجة للقائمين على هذه المجموعات،، فلذا حرص المهتمون والقائمون على وضع شروط وضوابط عامة تحكم هذه المجموعات بمختلف أنواعها، تمنع هذه الأحكام والأعراف الاختلافات والفهم الخاطئ بين أفرادها، وقد صاغوها على شكل آداب وبروتوكولات تحكم هذه المجموعات، ومن أهم هذه الأحكام:
- امتثالاً لقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً...} يجب الابتعاد عن كل ما يسيء للدين والوطن ورموزه أو مكوناته.
- من الواجب احترام الأكبر سناً وأهل العلم والاختصاص.
- لرفع مستوى ومكانة هذه المجموعات يفضل استخدام اللغة العربية الفصحى قدر الاستطاعة.
- احترام خصوصيات الآخرين ورغباتهم والابتعاد عن استفزازهم وإيذائهم والتذاكي عليهم.
- مشاركة أعضاء المجموعة أفراحهم وأتراحهم، فللكلمة الطيبة في هذه المجموعات وقع جميل على النفس.
- اختيار المشاركات المفيدة النافعة (المنقولة) والابتعاد عن الرسائل السلبية، كالرسائل المحرمة والمروعة أو المشينة التي تسيء للأفراد والمجتمعات وغيرهم..
- البعد عن النقاشات التي تفرق ولا تجمع، وليس من الذوق ولا الحصافة فرض الرأي وتسفيه وانتقاد بقية الآراء.
- الاختلاف ظاهرة صحية طبيعية نظراً لاختلاف العقول والمدارك، فبالتالي ليس كل رأي مخالف عبارة عن تحدٍ أو انتقاص من الآخرين.
- في حال أراد شخص إنشاء مجموعة خاصة ورغب بإضافة أشخاص لها، المفترض إبلاغهم قبل إضافتهم فمن الممكن أنهم لا يرغبون بذلك فيقع الحرج.
- إذا تمت الموافقة على الانضمام لأي من المجموعات ليس من المنطق أو اللائق الصمت، فإما المشاركة أو الاستئذان بالانسحاب.
- الابتعاد عن تفسير كل رسالة حسب الهوى، والاعتقاد بأن كل الرسائل موجهة للمتلقي نفسه، فالحذر الحذر من سوء الظن فإنه مفتاح لكل الشرور.
- عدم الاكتراث أو الانزعاج حينما لا يتفاعل أحد مع مناسبات فرحك أو دواعي حزنك، فالجميع ليسوا متساوي الفكر، فبعضهم تنقصه الفطنة والذكاء الاجتماعي.
- الحذر من رسائل الغيبة والنميمة والابتعاد عن نشر خصوصيات الآخرين حتى لو كانوا أقرباء أو أصدقاء عزيزين.
- من الأفضل الاحتفاظ بالرسائل القيمة النافعة وحذف ما زاد عنها.
خاتمة..
يزعم البعض القول إن التعامل مع الأشخاص من خلال وسائل التواصل الاجتماعية يكشف ما خَفِيَ من طبيعتهم الشخصية ونفسياتهم وطرق تفكيرهم وكيفية معالجتهم للأمور.. وهذا الرأي يمثل بعضاً من المصداقية..
والبعض الآخر يزعم ويؤكد أيضاً أن الكثير من الأشخاص يمتلك شخصية مزدوجة، تتمثل الأولى بالشخصية الافتراضية من خلال تعاطيه مع وسائل التواصل، والأخرى شخصيته العامة الظاهرة للناس.. وبين هذه وتلك يلحظ الإنسان تبايناً كبيراً بين الشخصيتين..